قرأنا لسامي الجندي ما طلبه منه وزير خارجية حافظ أسد إبراهيم ماخوس للاتصال بمندوب إسرائيل وتساؤله عن سبب اختياره لهذه المهمة لإسكاته عن أشياء كثيرة كان فيها شاهدًا وأن اتصالات جرت حسب اقتناع الجندي عن طريق أكثر من دولة ثالثة وفي أكثر من عاصمة كما نقل عنه باتريك سيل في كتابه عن الأسد ص٢٢٩- ٢٣٠.
وضمن النقاط المهمة التي عرض لها الجندي في كتابه كسرة خبز عن تسليم الجولان والإعلان عن سقوطها قبل وصول العدو إليها قال لي ماخوس : أنها كانت خطة ماهرة لإعراب العالم من أجل إنقاذ دمشق يقول الجندي : قلت لماخوس : وما الثمن الذي ندفعه لاستعادة الجولان
قال : الاعتراف بإسرائيل.
وهذا هو بيت القصيد وهذا ما مررنا به سريعًا من قبل.
يقول صاحب كتاب سقوط الجولان : تتحدث أوساط السوريين عن أمر لا يقل خطورة عن هذا الذي صرح به سامي الجندي يقول الملازم الأول عضو الوفد السوري إلى لجنة الهدنة المشتركة : لقد استدعيت إلى مكتب رئيس الوزراء الدكتور يوسف زعين بتاريخ ٩ حزيران ١٩٦٧ في الساعة العاشرة ليلاً فوجدت عددًا من أفراد لجنة الرقابة الدولية في مكتب زعين برفقة أحد السفراء في دمشق وأرجح أنه الأمريكي في سوريا فقام الضابط الملازم الأول بالترجمة بين رئيس الوزراء ومخاطبيه قال السفير : إذا لم تسحب القيادة السورية قواتها من الجولان فإن القوات الإسرائيلية لن ترضى هدفًا يتوقف زحفها عنده إلا دمشق.
فسأله زعين : وما هي الحدود التي تريد إسرائيل الوقوف عندها
قال السفير : هل عندكم خريطة فأبرز الملازم الأول خريطة
فوضع السفير عليها عددًا من النقاط التي يجب أن يمر بها خط الحدود الجديد وتتوقف عنده القوات الإسرائيلية إذا قامت السلطات البعثية بسحب قواتها خارجًا عنه.
ويقول الملازم الأول المترجم : وافق الدكتور زعين ووعد السفير بتحقيق ما طلب وغادر الجميع مكتب رئاسة الوزراء على هذا الأمل وفي الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي صدر بلاغ سقوط القنيطرة بالتفصيل الذي مر معنا ثم أدخل الضابط المترجم سجن المزة بعد تسريحه من الجيش لأنه باح بالسر وشرع يتحدث به أمام عسكريين.
هل أحرج هذا المصاب هزيمة حرب الجولان يوسف زعين و حافظ أسد و إبراهيم ماخوس و نور الدين الأتاسي ومن لف لفهم.
كلا بل رفع هؤلاء التقدميون الثوريون رؤوسهم عالية كمنتصرين على العدو فقد قال إبراهيم ماخوس كبير الباطنيين في هذه الزمرة في أحد الاجتماعات الحزبية : أيها الرفاق : لا تنسوا أن الهدف الأول من الهجوم الإسرائيلي هو إسقاط النظام أو الحكم التقدمي في سورية وكل من يطالب بتبديل النظام وتغيير حزب البعث هو عميل لإسرائيل.
وقال أحد أبطال حرب الجولان أو بالأصح تسليم الجولان قائد الجيش البعثي : أنا كمسؤول لم أستشر في البلاغ رقم ٦٦ الذي أعلن عن سقوط القنيطرة وكمواطن سمعته من الإذاعة كغيري ومع ذلك شهد أحمد سويداني و إبراهيم ماخوس وغيرهما : أن لا أهمية لسقوط جزء من الأرض ولو وصل العدو إلى دمشق وحمص وحلب طالما أن التقدميين استمروا بالسلطة فالأرض يمكن تعويضها أما الحكم التقدمي إذا سقط فلا يمكن تعويضه ولا أهمية لمدينة القنيطرة عاصمة الجولان التي نهبها العدو وأفرغ منها ومن القرى المحيطة بها ١٢٠ ألفًا من سكانها طالما أن الأقلية الطائفية استمرت في حكم سوريا
و ظهر الخامس من حزيران اتصل سفير دولة كبرى في دمشق يرجح أنه السفير السوفياتي بمسؤول سوري كبير ودعاه إلى منزله لأمر عاجل وهام فتم الاجتماع في الحال نقل السفير للمسؤول السوري نص برقية عاجلة تلقاها من حكومته تؤكد أن سلاح الجو الإسرائيلي قد سحق سلاح الجو المصري وقضى عليه قضاء مبرمًا وأن المعركة بين العرب وإسرائيل قد اتضحت نتائجها منذ الساعة التاسعة ومن ذلك الصباح وإن كل مقاومة أرضية ستلحق خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات لا مبرر لها وأن إسرائيل لا تنوي مهاجمة النظام السوري بعد أن يتم لها تأديب جمال عبد الناصر.
وبانتهاء الزعيم المصري تتفتح الآفاق العربية أمام الثورية البعثية من المحيط إلى الخليج وإن إسرائيل من قبل ومن بعد هي بلد اشتراكي يعطف على التجربة البعثية الاشتراكية وخاصة البعثية العلوية ويمكنها أن تتعايش وتتفاعل معها لمصلحة الكادحين في البلدين وقد يكون ذلك منطلقًا نحو تسوية نهائية على أسس الأخوة الاشتراكية كان حزب العمل إذ ذاك يحكم إسرائيل ولذا فمن مصلحة سورية ومصلحة الحزب ومكاسب الثورة أن تكتفي بمناوشات بسيطة لتكفل لنفسها السلامة أو التزامًا بما سبق الاتفاق عليه سرًا.
عاد المسؤول السوري ليبلغ السفير استجابة الحزب والحكومة والقيادة لمضمون البرقية العاجلة وهكذا كان وهذا هو سر امتناع السلطة السورية عن دخول المعركة جديًا لأربعة أيام والاكتفاء بمناوشات حدودية كما رأينا من قبل غير أن إسرائيل التي ضمنت بقاء حكم الأقلية واستمراره في سورية لا تسمح بأن يكون هذا الجار قويًا بل ينبغي أن يكون حكمًا هزيلاً ضعيفًا لا يقوى على مجابهة أو مواجهة وهذا لا يكون إلا بقمع شعبه واضطهاده مواطنيه العزل وحسبه البقاء في السلطة وأن يمسك بتلابيب الحكم لهذا لم تكد إسرائيل تنتهي من عملياتها العسكرية في الجبهتين الجنوبية والشرقية وتفرغ من سحق القوات المصرية تدميرًا وقتلاً وأسرًا وتعسكر على ضفاف القنال الشرقية لأن بطل القومية العربية جمال عبد الناصر كما يسميه البعض قال : ظننا أن العدو سيأتينا من الشرق فإذا به يأتي من الغرب وكذلك من الجبهة الشرقية بعد ضرب الطيران الأردني والقضاء عليه حتى انتقلت بثقلها إلى الجبهة الشمالية مع سورية وسرعان ما سقط خط ماجينو السوري دون قتال كما رأينا من قبل وانسحبت فلول الجيش السوري المغوار إلى دمشق لحماية مكاسب الثورة من أعدائها الداخليين وتثبيت الحكم التقدمي الثوري الاشتراكي
فسحقت إسرائيل سلاح الطيران سوري الذي لم يكن مستعدًا للمعركة ولا مؤهلاً لها لأن معظم الطيارين السوريين الأكفياء الذين تدربوا في أمريكا وإنكلترا والاتحاد السوفياتي ومهروا في القتال الليلي وأثبتوا كفاءات عالية في المناورات القتالية الجوية قد سرحوا من الجيش وشردوا فلم تجد إسرائيل من يحد من قدرتها على تدمير الطيران السوري وإلحاق الهزيمة بالجيش واحتلال الأرض التي لم تعد تجد من يحميها ويدافع عنها
وكانت وسائل الإعلام الغربية تدرك الكثير من بواطن الأمور قبل أن يحيط بها المواطنون السوريون وأكتفي بما قالته مجلة التايم الأمريكية ذات الشهرة الواسعة في ٢٣- ٦- ١٩٦٧ : أنقذ الهجوم الإسرائيلي على سورية خلال حرب حزيران ، النظام البعثي المتطرف فيها.
ومنذ ذاك اليوم الذي فاحت فيه رائحة الخيانة والتفريط والغدر بالوطن والشعب ساد هدوء عجيب على الجبهة وحرم النظام على السوريين والفلسطينيين أي نشاط يعكر العلاقة ما بين النظام الأسدي و إسرائيل وأغلقت الحدود الجديدة في وجه التنظيمات الفدائية بما فيها الصاعقة التي أنشأها النظام في سورية كجزء من كيانه وقواته وحزبه ومن يعكر هذا الهدوء ويتحدث عن أرض الجولان أو أي عمل فدائي فيها يلقى مصيره الأسود ويزج به في غياهب السجون لعشر أو عشرين أو ثلاثين سنة كما حدث لعدد من أبناء فلسطين المقاومين والفدائيين فكان في ذلك شهر عسل طويل الأمد بين الحكم الطائفي في دمشق وبين العدو الذي احتل فلسطين كلها وابتلع الجولان وصار قريبًا من دمشق واعتلى جبل الشيخ المطل من بعيد على عاصمة الأمويين ليستمر شهر العسل المسموم أكثر من أربعة عقود ورجال السلطة المتسترون بالبعث والجبهة التقدمية زورًا سادرون في غيهم يزدادون كل يوم عنفًا وقمعًا للمواطن السوري وينهبون ثروته ويستبيحون قيمه وحرمته وهم في الوقت ذاته يحظون بالحماية الإسرائيلية التي ترفع الفيتو في وجه أي دولة تفكر في النيل من النظام السوري القمعي الذي يحكم في ظل قانون عرفي دائم ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية الأمر الذي أمسى معروفًا ومعلنًا في السنوات الخمس الأخيرة للخاصة والعامة على حد سواء.