العودة إلى الذات 2

التاريخ الذي نجهله

لقد كان نوح أول الأنبياء الثائرين على الكهنة الذين انقلبوا على المرحلة التي كانت فيه الإلهة الأم هي الراعية، حين كان الإنسان يتصور الآلهة في شكل أنثوي يتمثل بالأم التي تحمل سر الحياة و تمنحها وتهبها لبقية القبيلة، فدورة الحيض تمثل وجودا دورة الخصوبة وتشبه تعاقب الفصول في الطبيعة، والحمل والولادة ثم الرضاعة، بالإضافة إلى أن الأم كانت تمثل أساسا ثابتا يلتف حولها الجميع، فهي أقرب أفراد العائلة للطبيعة وأكثرهم معرفة بظواهرها ومكوناتها، تعرف الأطعمة الصالحة للأكل، وتعرف كيفية إعداد اللباس من فرو وجلود الحيوانات، كما تعرف الأعشاب الدوائية او التي يمكن استخدامها لعلاج حالات مرضية مختلفة، و لذلك كانت الأم تمثل الأساس الذي تجتمع حوله العائلة في أولى تشكلها، مما دفع البشر حينها لتصور شكل بدائي أنثوي للآلهة التي تسير الطبيعة، هذا الشكل كان هو نفسه شكل المرأة الممتلئة خصوبة و عطاء لا ينتهي. في هذه المرحلة ترك الذكر للمرأة موقع الريادة، واستمر حضور الإلهة الأم في الوعي البشري حتى بعد الإنقلاب الذي تم من العصر الذكوري على العنصر الأنثوي، وهي التي انبثقت عنها تصورات أخرى لأشكال متعددة من الآلهة الأنثوية مثل عشتار وإنانا وليليث ونينورساغ الرافدية، وإيزيس و حاتحور المصرية القديمة و أرتميس و أفروديت و أثينا اليونانية، وصولا لمريم العذراء المسيحية و عرف العرب اللات و العزى ومناة قبل الإسلام.

مع مرور الوقت اتسعت المجتمعات البشرية و تطورت لمنظومات إجتماعية أكبر، مما نتج عنه تزايد الإحتياجات الحياتية، من مأكل و غذاء و حاجة للدفء و اللباس و ضرورة توفير منابع أكبر للماء و مجالات صيد اكثر وفرة، و هذا شكل أول أسباب الصراع بين المجتمعات البشرية، فبدأت القبائل تتقاتل من أجل الموارد المتوافرة و التي تزداد بإطراد بتزايد أعداد أفرادها، وهنا إنتقل مركز ثقل العائلة من الأم نحو الأب وهو المكلف بتوفير مصادر الغذاء وحماية العائلة التابعة له والمنبثقة عنه بأفرادها الأضعف مثل الأطفال والنساء، والتصدي للذكور المعتدين أو المهاجمين من قبائل أو تجمعات بشرية أخرى، و شيئا فشيئا تحول هذا الذكر لمركز العائلة، و تحولت المعرفة الحيوية بالطبيعة من الأم الكبرى إلى الذكر الأكبر والأقوى، الذي صار زعيم العائلة / القبيلة. ومع الوقت فالزعيم الأول صار هو الجد الأكبر، الذي تجمعت لديه منابع الحكمة و المعرفة، و بعد موته كان من الطبيعي أن يتحول لرمز مقدس أو طوطم في الوعي الجمعي للقبيلة، هذا الرمز بات حينها مصدرًا أزليًا و دائمًا لتلك الحكمة و المعرفة التي تمكن أفراد القبيلة من مواجهة الطبيعة بكل صعوباتها ومخاطرها، و موته لا يعني نهايته واندثاره التام من الوجود، فأفراد القبيلة قد رفعوا روحه لمقام من السمو والتقديس، فصار حاضرًا معهم بشكل أبدي، يرعاهم بحكمته من عالم الأرواح، و يستطيعون الإتصال به عبر طقوس معينة تتشكل من رقصات وتعاويذ خاصة، وظهر ساحر القبيلة أو الشامان وهو الذي يتصل بعالم الأرواح و بروح سيد القبيلة ليسأله و يدعوه لأن يلف ببركته أفراد القبيلة، و هاته الممارسات موجودة ومتبعة إلى اليوم لدى قبائل وشعوب لم تفقد صلتها القوية بالطبيعة، وفي إطار هذه الممارسات، تتجلى الحاجة للقربان الذي يجب تقديمه لسيد القبيلة الذي بات إلها يعبده الجميع، وهو يحتاج للأضحية في عالمه الأخروي لكي يرضى على القبيلة، هذاه الأضحية (القربان) يتم تقديمها للمقام المقدس الذي أقيم له في شكل طوطم أو مذبح يجتمع حوله أ فراد القبيلة، وحوله تروى الحكايات التي شكلت في وعي الإنسان أولى الأساطير التي نعرفها اليوم، ونحاول عبرها اكتشاف شكل الحياة لدى المجتمعات البشرية القديمة.

شيئا فشيئا يتحول هذا الطوطم إلى تصور دائم للإله الحاضر دوما في الوعي الجمعي، و المتصل أبديا بأفراد القبيلة بكل مكوناتها، كراع لها يتجاوز سياق الزمان والمكان، ومع تعدد الأجداد وتعدد الظواهر الطبيعية تكاثرت الآلهة تعددت وتشعبت بلا عدد او حصر، ثم بدأت تحاك حولها القصص و الأساطير والملاحم التي تروي الصراع الأزلي فيما بينها وسط عالم يتجاوز حدود الوعي البشري (مثل ملحمة جلجامش السومرية و إينوما إليش البابلية و الماهابهاراتا الهندية و الإلياذة و الأوديسا الإغريقية) وهي كلها تمثل مستويات تطور مختلفة في تصور الإنسان للآلهة بصفات إنسانية بحتة.

وحين ظهر نوح أول الأنبياء البشريين كان الانقلاب على الآلهة الأم حاصلا ، وكان الكهنة يتصدرون المشهد، وكان إعلانه خبر النبوة مفاجئًا لدى الكهنة، فهم اعتادوا أن تأتيهم النذر من غير البشر لذلك قاوموا نوحا الذي تدل القراءة والمكتشفات أنه عاش بين عصرين من حياة سومر قبل وبعد الطوفان السومري، يدل على ذلك المرور بين تقويمين عرفتهما سومر ذكرهما القرأن في آية واحدة ” فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ” 

ومر من شعر أبي العلاء المعري قوله: 

وادّعَوا للمُعَمّرينَ أُموراً، لستُ أدري ما هنّ في المَشهور

أتُراهُمْ، فيما تَقَضّى مـن الأيـ ـامِ، عَــدّوا سنيّـهُمْ بالشهـور

كلّمـا لاحَ للعيـونِ هـلالٌ، كانَ حــولاً، لديــهمُ، في الدُّهور

فأبو العلاء المعري من أول من استذكر مسألة الأعمار، وتأول وجود قياسين للزمان في ذلك الزمان، وهكذا تأول الآية في عمر نوح عليه السلام (فلبث في قومه ألف سنة إلا حمسين عاما) فهو عمر بشري عادي لكنه مر بمرحلتين فيهما قياسان كانا لدى السومريين قبل الطوفان وبعده، أثبت ذلك وثاذق كهان ذلك العصر، في ألواح اكتشفها هيرمان هيلبرخت 1906 وعليها أسماء ملوك سومر وفترات حكمهم بآلاف السنين، وفترات أُخر قريبة من حياة عادية، وذكر ذلك كونتراتيوف في كتاب ” الطوفان العظيم بين الواقع والأساطير”، فهو يذكر حسب الوثائق السومرية التي وضعها الكهنة لحكم الملوك السومريين الذين حكموا مدن بلاد الرافدين قبل الطوفان وبعده تعود إلى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد.. هذه الوثائق تقدم معطيات عن وجود خمس مدن ماقبل الطوفان نزلت الملوكية فيها من السماء:

ــ اوريدو حكمها ملكان استمر حكمهما 64 ألف سنة 

ــ باتييرو حكمها ثلاثة ملوك استمر حكمهم180 ألف سنة 

ــ لاركو حكمها ملك واحد 28 ألف سنة 

ــ حسبار حكمها ملك واحد 21 ألف سنة

ــ شوروباك حكمها ملك واحد 18 ألف سنة

يقول: ومما نلاحظه هنا هو فترات حكم خيالية ربما لايمكن فهمها إلا ضمن حسابها السومري آنذاك، ويبدو أن هذه الفترات انسحبت على ماجاء في التوراة من أعمال خيالية للأنبياء، لذلك في فترة ماقبل الطوفان كان هناك خمس مدن حكمها ثمانية ملوك 240 ألف سنة .

ثم حل الطوفان كما جاء في الوثائق السومرية، ثم جاءت فترة تعود فيها الملوكية حيث:

 ــ حكم “مدينة كيش” الرافدية 23 ملكًا لمدة 24150 أربع وعشرين ألف سنة ومائة وخمسين سنة..

 ــ ثم دمرت “كيش” وانتقلت الملوكية لمدينة ” كي انا” التي حكمها 12 ملكًا لمدة 2310 ألفين وثلاثمائة وعشر سنوات 

ــ ثم دمرت” أوروك” وانتقلت الملوكية إلى” أور” حيث حكمها أربعة ملوك لمدة 177 مائة وسبعة وسبعين سنة .

تغيرت الأرقام مابين فترتين وتغير العدُّ فكان هناك نظامان للعدِّ ماقبل الطوفان ومابعده، مايعطينا فترة عاش فيها نوح وسط السومريين، وأنه عاش عمرا عاديا بين وحدتين زمنيتين كل منها يقيس بقياس مختلف قبل الطوفان وبعده .

والإشارات القرآنية تتحدث عن ثورة نوح الذي دعا لإله واحد مجرد، وإلى نبذ الآلهة الأرضيين الذين استعبدوا الناس بواسطة كهنة سماهم بأسمائهم وهم ” ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا” وهؤلاء كهنة كان الملأ يقولون لبعضهم ولمن حولهم رافضين دعوة نوح (وقالوا لاتذرن آلهتكم ولاتذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا)، وتشكل بعد نوح نظام مجتمعي سعى للحفاظ على وجوده آلافا من السنين.

إعداد: رياض درار 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.