في العام ٢٠٠١ تم إطلاق سراح دفعة من المعتقلين السياسيين وكان من بينهم قريب لنا مقيم في إحدى قرى الشدادي خرج بعد ٢٥ عاماً قضاها في سجن تدمر
بعد ثلاثة أيام من خروجه رافقت والدي رحمه الله لتهنئته بالسلامة وبعد أن وصلنا إلى منزله وتبادل القبلات وكلمات التهاني بالخروج حياً من أسوأ سجن على وجه البسيطة.
كان قريبنا المفرج عنه يجلس صافناً في غياب عن الوعي الزماني والمكاني
كانت علائم القهر بادية على وجهه رَبَتَ والدي على كتفه وبدأ يواسيه بعبارات الصبر: طوّل بالك وصلي على النبي الحمد لله إنك طلعت عايش وهيك ربك أراد
قال الرجل: بتعرفوا ليش أنا صافن
ثم تابع قائلاً: والله دخلت المعتقل من ٢٥ سنة وكنت أباً جديداً لطفل لم أعلم ماحدث له لأن سنوات السجن الـ ٢٥ أنستني حتى اسمي لن أحدثكم عما رأيته وسمعته وعشته وذقته من العذاب لكن حين أعلموني بنبأ الإفراج عني وتجهزت للخروج اصطحبونا أنا ومجموعة من المفرج عنهم بسيارة ثم قاموا بوضعنا في دمشق وانصرفوا عنا فرحنا ننظر إلى معالم دمشق التي تغيرت وكأننا في مدينة مجهولة عنا تذكرنا أهل الكهف عندما خرجوا من كهفهم ولم يتعرفوا على بلدهم
سألنا الناس أين نحن وكيف الوصول إلى قريتنا فدلونا على سيارة تسافر إلى الحسكة وقام أحدهم بعد أن عرف وضعي بإيقاف السرفيس الذي اتفقنا معه ليوصلنا لأهلنا لأن لا أحد مننا يملك قرشا واتفقنا أن نعطيه أجرة السيارة عندما نصل أهلنا وعند وصولنا إلى الحسكة التي غبنا عنها ربع قرن من الزمن ذهبنا إلى الكراج المخصص للذهاب إلى الريف الجنوبي للحسكة
وفي الطريق كان السائق يقول بين الفينة والأخرى: أهلين حجي
ثم سألني إلى أين ذاهب يا حاج فقلت له: للقرية الفلانية
سألني: و من لك بالقرية
قلت له: أهلي وقرابتي.
قال لي: وكيف هيك أنا من هذه القرية وما أعرفك ونحن كلنا مائة بيت إلى أين ذاهب بالضبط
قلت له: ذاهب لبيت فلان أقصد نفسي
فجأة توقف السائق في وسط الطريق والتفت إلي وقال: شو إلك ببيت فلان ومن أين تعرفهم يجب أن تخبرني.
قلت له: أنت يا أخي وصلني لعندهم وما عليك بالباقي
قفز السائق إلى حيث أجلس وأمسك بياقة قميصي حتى كاد أن يخنقني وقال لي: اسمع ولك هذا بيتنا يلي أنت ذاهب إليه وأنا صاحب البيت وكيف تأتي لعندنا وأمي أرملة وأنا لا أعرفك
هنا والله لم أدري ما فعلت لكن قلت له: أنت أنس
قال لي: نعم أنا أنس أريد أن أعرف ماذا تريد ومن أنت
فما كان منّي إﻻ أن قبلت يديه اللتين ما زالتا على الياقة وقبلت وجهه وأنا أقول: أنا أبوك أنا أبوك وأخبرته أجزاء من ذاكرتي عنه وعن والدته أم أنس
وأسقط في يده واحتضنته واحتضنني في عاصفة من دموع ﻻ تصفها كل الكلمات
ومن وقتها وأنا أعيش صدمتي هذه التي أنستني سنواتي ال ٢٥ التي قضيتها في السجون
إنها قصة حقيقية يرويها ضيف السجين مباشرة.
إعداد: مروان مجيد الشيخ عيسى