إديولوجية الأنظمة القمعية في سوريا وإيران

سوريا – مروان مجيد الشيخ عيسى

 

تحاول الأنظمة القمعية أن تدجن شعوبها وتبدأ منذ بداية دخولهم المدارس.

ولم يعد خافيا الدور الذي تقوم به أجهزة الضبط الإيديولوجي في الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، ولا سيما في تدجين الأفراد وتحويلهم إلى نسخ متشابهة تتمثل العقيدة الإيديولوجية للحزب الحاكم أو للفئة الحاكمة.

تسعى الأنظمة الإيديولوجية عادة إلى زرع قيمها من خلال النظم التعليمية التي يتردد فيها صدى إيديولوجيا الحزب أو الدولة واضحا، على نحو ما قام به النظام السوري الذي أوجد مؤسسات تعنى بتدجين الطلاب منذ بداية التحاقهم بالمدرسة الابتدائية، كمنظمات طلائع البعث وشبيبة الثورة واتحاد الطلبة، وكانت تتولى عملية الضبط من خلال أساليب متعددة، منها اللباس الموحد، وترديد الشعار الخاص في بداية اليوم الدراسي، والاحتفالات والمهرجانات والمعسكرات

ونظام طلائع البعث مثله مثل أي نظام ضبط إيديولوجي كان صالحا في ظل عالم ما قبل الثورة الرقمية، لأن النظام الأسدي كانت لديه قدرة على التحكم بالمعلومات من خلال وسائل الضبط التقليدية كالتشويش على القنوات الإذاعية والتلفزيونية، ومنع الصحف والمجلات من الدخول إلى البلد. هكذا كان من المفترض أن ينشأ الأطفال ويكبروا ليكونوا ببغاوات تكرر ما زرع في عقولها عن الجنة الأسدية التي يحسدهم العالم على العيش فيها، وهي نسخة تبدو على أكمل وجه في النموذج الكوري الشمالي.

غير أن ما لم يكن في حسبان النظام السوري أن التطور التقني أحال وسائل الضبط لديه إلى التقاعد منذ بداية الألفية، فقد وفر البث الفضائي لطلائع البعث الذين كبروا قدرة على الاطلاع على العالم وما يدور فيه، ولاسيما مع الانفجار الرهيب في عدد المحطات الفضائية التي غدت الموجه الإيديولوجي للأجيال الجديدة، بدلا من الرفيق البعثي ذي الدفاتر العتيقة. هكذا قتل أطفال البعث آباءهم الذين لم يعودوا النموذج الذي ينبغي السير على خطاه. إن من بدأ الثورة السورية، ومن قام بالمظاهرات والاحتجاجات في عام 2011م، هم أطفال البث الفضائي الذين ماتت طلائع البعث وشبيبة الثورة في نفوسهم وعقولهم، وتحولت إلى مادة للسخرية والهزء. أما الفيس بوك، وعلى النقيض مما يشاع، فلم يكن هو المحرض التقني للثورة السورية، وإن أسهم لاحقاً بدور كبير في عملية “التنوير”، بعد أن أصبح الوسيلة الأولى في النقاش السياسي والاجتماعي والتواصل بين السوريين.

أما ما يجري في إيران حاليا هو موجة جديدة من الاحتجاجات الناجمة عن التطور التقني، فلم يكن للبث الفضائي دور كبير في توعية الجمهور الإيراني كما حدث في العالم العربي، فقد بقي الإعلام الإيراني مسيطرا عليه من قبل النظام الإيراني، ولم توجد وفرة في القنوات الناطقة بالفارسية تبث من خارج إيران، ولهذا كان المشاهد يلجأ إلى القنوات الناطقة باللغات الإنجليزية والعربية والتركية، وكان الحاجز اللغوي عائقا أمام هذه القنوات في الأوساط غير الملمة بها. ولهذا كان تأثير البث الفضائي في عملية التوعية واطلاع الإيرانيين على العالم محدودا بالصورة فقط، ولهذا أيضا فقد ظلت الكلمة المنطوقة على سبيل المثال هي الوسيلة الأساسية في المظاهرات

على خلاف الاحتجاجات السابقة التي كانت تقوم بها الطبقة الوسطى، فإن رأس حربة الاحتجاجات في إيران، الآن، هو الجيل الذي يطلق عليه الجيل “ي”، وهو جيل ولد في نهاية التسعينيات وبداية الألفية، ولديه مثل كل نظرائه في العالم ألفة مع التقنية المعاصرة، على الرغم من الرقابة التي يفرضها النظام الإيراني على شبكة الإنترنت، ولكن هذه الرقابة حفزت هذا الجيل ليكون أكثر دراية بالوسائل التي تمكنه من تجاوزها والوصول إلى الشبكة العالمية، فبحسب الإحصائيات فإن ما يقارب 80 بالمئة من مستخدمي الإنترنت في إيران لديهم حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي المراقبة من قبل النظام الإيراني الذي قام فعليا بحظر أكثر من 35 بالمئة من مواقع الإنترنت الأكثر زيارة على مستوى العالم.

مثل الشباب السوري الذي خرج إلى الشوارع والساحات في بداية الثورة السورية، فإن الجيل الإيراني الجديد أكثر جرأة في طرح القضايا من الجيل السابق، تساعده على ذلك معرفته الواسعة بالإمكانيات التي يتوفر عليها بلده من جهة، ومستوى الفساد والمحسوبيات داخل النظام من جهة أخرى.

وهي معرفة اكتسبها من خلال الشبكة العنكبوتية. فالجيل الإيراني الجديد، أو الجيل “ي”، نشأ في ظل عقدين من العقوبات الاقتصادية الغربية بسبب البرنامج النووي الإيراني، وهي أوضاع دفعت به لطرح أسئلة عن جدوى البرنامج النووي، فقد تغير مزاج الجيل الجديد، ذلك أن العقوبات الاقتصادية المفروضة أنتجت غضبا موجها نحو أميركا فيما مضى، ولكن هذا الغضب تحول باتجاه النظام الإيراني في السنوات الأخيرة، ولاسيما في ظل الفقر، وضعف المشاركة السياسية، والفجوة المتزايدة بين طبقة رجال الدين والجيل “ي”، وتآكل الرأسمال الاجتماعي للنظام لدى الفئة الشابة تحت سن 30 عاما، والتي تشكل أكثر من ستين بالمئة من عدد السكان. ولهذا لاحظنا موجة إسقاط العمائم تعبيرا عن النفور من الطبقة الكهنوتية الحاكمة، ووجود فجوة بين طبقة رجال الدين والجيل “ي” على مختلف الصعد الأخلاقية والسياسية والاجتماعية.

ولعل معضلة النظام الإيراني أن إغلاق النظام السياسي أمام التغيير الحقيقي انعكست على شكل تراجع في القيم الإيديولوجية لما يسمى بالثورة الإسلامية، فكل جيل كان أقل إيديولوجية والتزاما بأهداف الثورة من الجيل السابق، وأكثر تحررا من الناحية السلوكية، بحيث تكاد تتطابق سلوكيات الجيل الجديد مع سلوكيات نظرائهم في الغرب، وظهر هذا في أعقاب مقتل مهسا أميني، حيث بدأت تظهر فيديوهات لفتيات يحرقن أغطية رأسهن، ويقصصن شعرهن، على نحو يثير دهشة الأجيال السابقة واستغرابها.

ينقل وزير الثقافة الإيراني عن رجل مخابرات يحقق مع المعتقلين في الاحتجاجات الحالية قوله: لقد حققت طوال عشرين سنة مع متهمين كثر ينتمون إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، والتوجهات السياسية، بمن في ذلك سياسيون كبار، ولكن ما أواجهه اليوم مع المتظاهرين الحاليين أمر مختلف، لأنهم لا يفهمون ما أقوله لهم ولا أفهم ما يقولونه لي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.