يعكس بيت نزار قباني عراقة العمارة الدمشقية وعبقرية بها في التوليف بين عناصر الماء والنبات والزجاج المعشق وأرضيات الرخام المعرق والحجر الدمشقي الأبلق وهذا البيت كان الخلية الأولى التي احتوت نزار وليداً ويافعاً وأثرت في تكوينه وخلقه شاعراً ينشد الجمال الذي عاش في كنفه وفي رحابه فكان أحد مفاتيح شعره وإبداعه وكان هذا البيت بمثابة اللحظة الفردوسية التي اختلطت فيها الذات الشاعرة بتفاصيل المكان الدمشقي لتغدو فلاً في أباريق الأم وقطة في صحن الدار ويختلط المكان بالحلم ليغدو مكاناً شخصياً وشعرياً كأن ذات الشاعر تتوزع على ما مضى وكأن ما مضى سكن روح الشاعر إلى الأبد في الحارة المتفرعة عن الشارع المستقيم في دمشق فالمنزل الواقع في حي مئذنة الشحم وسط البلدة القديمة كان قد شهد طفولة الشاعر ونشأته منذ عشرينيات القرن الماضي وفيه فتح نزار عينيه لأول مرة على جنة من الورد والأشجار والروائح وكان المكان الذي قال عنه في كتابه قصتي مع الشعر متسائلاً: هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر بيتنا كان تلك القارورة وثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر بل أظلم دارنا
ولولا أن تطوع الباحث علي مبيض أخيراً ووضع لافتة صغيرة على باب منزل الشاعر الراحل حملت مطلع قصيدة له لما عرف أحد تاريخ هذا البيت الذي اشترته عائلة عباس نظام من آل القباني عام ١٩٦٨ إذ كان البيت أيضاً شاهداً على نشاط حركات التحرر الوطني ضد المستعمر الفرنسي ولطالما كانت باحته ملاذاً لصفوف المتظاهرين وموئلاً لهم للاستماع إلى خطب وبيانات يلقيها رجال الثورة السورية وعلى رأسهم فوزي الغزي الملقب بأبي الدستور السوري ومن ثم كانت الحشود الغاضبة تنطلق من بيت القباني إلى كل ساحات العاصمة السورية
وبدلاً من أن يكون بيت صاحب هكذا أكتب تاريخ النساء مقصداً للزوار ومتحفاً لمقتنياته الشخصية ومؤلفاته أسوة ببيوت كل من أحمد شوقي في القاهرة وتشيخوف في يالطا وفيكتور هوغو في باريس وجبران خليل جبران في لبنان تحول بيت القباني اليوم إلى منتدى ثقافي وسياسي إيراني وقد نظم اتحاد الكتاب العرب أول نشاط لشعراء إيرانيين وسوريين قرؤوا قصائدهم في باحته رثاء لقائد فيلق القدس قاسم سليماني والعالم النووي والضابط في الحرس الثوري محسن فخري زادة وجاءت تحت عنوان مؤتمر نهج الشهيدين فاستحالت أشجار الكباد والنارنج والياسمين وقناطر البيت الدمشقية إلى مساحة لصور سليماني وزادة والخامنئي وحلت الخطب والقصائد السياسية في جنبات الدار التي كتب نزار لها أجمل أشعاره فتغزل بشجيرات ياسمينها ونارنجها ووردها الشامي وغفا عند عتبات ليوانها وأطل من نوافذها ومن يزر البيت اليوم يلاحظ عدم وجود أي علامة يدل على الشاعر أو عائلته فلا أثر لمطحنة بن أم المعتز النحاسية ولا لركن والده أبي المعتز إلى جانب بحرة الماء التي جفت وماتت الأزهار في أحواض الزرع المركونة على حوافها ناهيك بكتلة المصعد الكهربائي الذي بات يتوسط البيت اليوم ويحدث تشويهاً في أسقفه المزخرفة وطرازه المعماري ببنائه ذي الطابع التراثي واضمحلت الرسوم النباتية على أقواسه ومقنطراته وتم استبدال العديد من أسقفه الموشاة باللوحات والجدرانيات الفسيفسائية وهذا ليس جديدا على نظام اعتاد أن يبيع البلد فكما باع الجولان وباع بيت زعماء الشام فهو يستطيع أن يبيع بيت شاعر دمشق وعاشقها نزار قباني.