بقلم: [مروان مجيد عبدالله ]
في زوايا الذاكرة السورية، تحتفظ قرية الفدغمي الواقعة بين قريتي جلال والشمساني، بسجل مشرّف من مواقف البطولة والكرامة في وجه الاستبداد. رجال تربّوا على مكارم الأخلاق والعلم والجرأة، فكانوا سيوفًا مسلولة بوجه الظلم، ورموزًا مضيئة في زمن حالك. ومن أبرز هذه الرموز: آل الصالح الشيخ إبراهيم، عائلة حملت مشعل المعارضة منذ اللحظات الأولى لما سمّاه حافظ الأسد زورًا وبهتانًا بـ”الحركة التصحيحية”.
الشيخ عيسى الصالح.. حامل القرآن وسيف في وجه الباطل
نشأ الشيخ عيسى البوسلامة، من فخذ الصالح الشيخ، في بيئة علمية وتقليدية أصيلة. بدأ تعليمه في الكتاتيب، وحفظ القرآن في سن مبكرة، ثم غاص في أعماق الفقه الشافعي، حتى أصبح مرجعًا لأبناء منطقته. كانت له حرفة تراثية هي صناعة النواعير على نهر الخابور، لكنها لم تُغنه عن واجبه في نصرة الحق، فكان ديوانه ملتقىً للعلم والفتوى والفرح، ومنبرًا لمقاومة الفكر الطائفي الذي جسّده حافظ الأسد ونظامه.
كره الشيخ عيسى النظام العلوي منذ بدايته، وحذر الناس من حزب البعث الطائفي. ازدادت حدّته بعد اعتقال ابنه المهندس عبدالرزاق، وهروب أولاده خلف ومحمد، وابن أخيه عبدالواحد إلى العراق. رغم بلوغه الثمانين، لم يسلم من الاستدعاءات اليومية من فرع الأمن العسكري في القامشلي، بقيادة العميد محمد منصورة ومعاونه عمر الطرن.
في رمضان، كانوا يتركونه منتظرًا لساعات عند الباب، وفي أحد المرات قال له عمر الطرن بازدراء: “لماذا تكرهنا وتسبّ رئيسنا؟” فرد الشيخ بثبات: “أنا أحب من يحب الله ورسوله، وأكره من يكرههم”. وعندما تمادى الضابط بالإساءة إلى الذات الإلهية، أجابه الحاج علي: “والله ليجي يوم وتنشالون لو كانت جذوركم من ثيل”. لم يفهم عمر معنى “ثيل”، وظنها فصيلاً مسلحًا، فضحك الحاج وخرج مطرودًا، لكنه مرفوع الرأس.
مواقف من الشجاعة والكرامة
من أبرز مواقفه، أنه ذهب إلى وزير الداخلية محمد حربا مطالبًا بفك الحجز عن أرضه المصادرة بسبب أبنائه، فرد عليه الوزير بأن القرار ليس بيده، بل بيد حافظ الأسد وعلي مملوك، فما كان من الشيخ إلا أن قال له: “ليش حاطينك وزير؟ أنت وزير أو رجل كرسي؟” فضحك الوزير وقال: “بصراحة… رجل كرسي”.
ومن طرائف تلك الحقبة، أن الشيخ ووالد كاتب المقال أوقفا سيارتهما على طريق قرية بسيتين لأداء صلاة المغرب، فتوقفت سيارة أمن وسألتهم عن هويتهم، فقالوا إنهم من منطقة بين جلال والشمساني، فقال الضابط: “حسبتكم من الفدغمي!”، ثم غادر خوفًا.
توفي الشيخ علي العبدالله رحمه الله في عام 1995، لكنه ترك خلفه رجالاً وذاكرة لا تنطفئ.
خلف أبو عبدالله.. مزارع وقائد معارض
الابن البكر، خلف العلي العبدالله، كان من أوائل المنتسبين للتنظيمات المعارضة منذ السبعينات، يتنقل سرًا إلى العراق لحضور اجتماعات المعارضة، ويتواصل مع ناشطي الداخل في ديرالزور وحماة. بعد اعتقال شقيقه عبدالرزاق، هرب إلى العراق عبر طريق سري، حيث أمضى أكثر من 25 سنة في العمل التنظيمي، ثم عاد إلى سوريا عام 2004، ليُعتقل مع شقيقه محمد وابن عمه عبدالواحد، ويُسجن أربع سنوات. توفي في 2018 ودفن في قريته الفدغمي.
عبدالرزاق العبدالله.. من أوائل مهندسي الكهرباء والمعارضة
ولد في الفدغمي، وكان الأول على محافظة دير الزور في الثانوية العامة. التحق بأول دفعة للهندسة الكهربائية في جامعة حلب عام 1964، وهناك انخرط في التنظيمات السرية المعارضة. بعد تخرجه، عمل في مؤسسة الإسكان العسكري، وأشرف على مشاريع كبرى، أبرزها كهرباء مشفى العزيزية بالحسكة، حيث كشف فساد أحد المتعهدين.
عُيّن مديرًا لشركة الإسكان العسكري، لكن الأمن العسكري طوّق مكتبه واعتقله. أُرسل إلى سجن تدمر، وعانى سنوات طويلة من التعذيب حتى الإفراج عنه عام 1999. استقر بعدها في الميادين ثم الحسكة، ويقيم اليوم في إسطنبول.
محمد العلي العبدالله.. الضابط الذي انشقّ عن جيش الأسد
درس في حلب وانتسب إلى التنظيم المعارض عام 1975. انشقّ عن الجيش السوري عام 1980 بعد اعتقال إخوته، وسلك طريق العراق بمساعدة الشيخ محمد سراج النامس. نشط في الموصل ضمن صفوف المعارضة، وعاد إلى سوريا عام 2004، ليُعتقل أربع سنوات، ويستقر بعدها في مدينة الميادين.
عبدالواحد الحميدي.. الذكاء السياسي والعمل السري
انضم إلى المعارضة عام 1968، وكان يدخل العراق بحجة زيارة أهل زوجته، بينما هو ينسّق مع قادة التنظيم. نشط في لبنان وسوريا والعراق. عندما علم بانكشاف التنظيم، لجأ إلى السفارة العراقية في بيروت، وأُمنت له طائرة خاصة إلى بغداد. عاد إلى سوريا عام 2004، واعتُقل لأربع سنوات، ثم استقر في الحسكة حتى وفاته عام 2019.
خاتمة: سيرة لا تموت
رحم الله من توفّى من هؤلاء الرجال الأحرار، وحفظ من بقي منهم. إن قصصهم لا تُروى للبكاء على الماضي، بل لتذكير الأجيال أن في هذا الوطن رجالًا قالوا “لا” حين كان الصمت هو القاعدة، وأن الشرف لا يُورّث فقط، بل يُنتزع بالمواقف.