منوع – مروان مجيد الشيخ عيسى
اهتمت الكثير من الوكالات الإعلامية ببحوث علمية كثير ومنها الجزيرة الوثائقية لتنقل آراء الكثير من العلماء وفي موضوع كروية الأرض وشكلها فلقد احتلّ شكل الأرض منذ القدم جزءا لا بأس به من تفكير الإنسان، فكما كان يشغله رصد النجوم وتعقب حركة الكواكب، فإنّ للأرض كذلك نصيبها من التفكر والتدبر، على الرغم من صعوبة تحديد الشكل الهندسي للأرض، لكون الإنسان قابعا على سطحها الضخم.
وكما بدا في الحضارات القديمة كالفراعنة وحضارة ما بين النهرين، فإن نموذج الأرض المسطحة شكّل حجر الزاوية في صياغة معالم الكون، ربّما لما تبدو عليه الأرض في عين الرائي من سطحيتها وامتدادها الذي لا ريب فيه، وذلك يعود لضخامتها بالنسبة لأجسامنا الضئيلة
ويظهر في متون الأهرام (Pyramid Texts) التي تعود إلى عصر الدولة المصرية القديمة، وتعد كذلك أقدم النصوص الدينية المعروفة في العالم؛ أنّ الآلهة “نوو” متمثلة بالماء كانت تحيط بالأرض اليابسة كقرص دائري.
ويظهر تشابه كبير في هذا المعتقد بين الحضارات الغابرة والأساطير القديمة، كما أن الإسرائيليات تصف الكون على أنه ثلاث طبقات، إذ تكون الأرض قرصا يطفو على مسطح مائي ممتد، وتحيط بها قبّة مائية سماوية مقعّرة تسبح بداخلها الأجرام السماوية بانتظام، كما أنّ ثقوبا في القبة تسمح بهطول المطر على الأرض من حين إلى آخر.3
والأمر عينه ينطبق على فلاسفة اليونان في ما قبل عصر سقراط (pre-Socratics) مثل الفيلسوف “طاليس” و”ليوكيبوس” وكذلك “ديموقريطوس” واضع النواة الأولى لنظرية الذرة، فسطحية الأرض بدت إحدى البديهيات بالنسبة للإنسان القديم.
ظهر أول رأي شاذ في مسألة سطحية الأرض على يد المدرسة الفيثاغورية (Pyhtagoreanism) المنسوبة لعالم الرياضيات “فيثاغورس” صاحب أشهر مبرهنة رياضية في الهندسة الإقليدية. إذ كانوا هم أول من ابتدعوا كروية الأرض بناء على حجج رياضية.
ثمّ تبعهم في ذات المنهج عمالقة الفلاسفة الإغريق مثل “أفلاطون” و”أرسطو” الذي استدل على ملاحظتين: أن نجوم الجنوب ترتفع فوق خط الأفق كلّما اتجهنا نحو الجنوب، وأيضا شكل ظل الأرض الدائري الذي يظهر على سطح القمر أثناء ظاهرة الخسوف.
وبما أن الإغريق برعوا في الرياضيات، فكان من البديهي محاولة حساب قطر الأرض إن صدق تصورهم عن الكوكب، فكانت في ذلك محاولات عدة حتى ظهر الرياضي “إيراتوستينس” (Eratosthenes) –قيّم مكتبة الإسكندرية-في القرن الثالث قبل الميلاد، فقام بتجربته الشهيرة لقياس محيط الكرة الأرضية. فقد كان سمع أن الناس في مدينة أسوان (الواقعة قريبا جدا من مدار السرطان) يوم الانقلاب الصيفي (22 يونيو/حزيران) يرون صورة الشمس في البئر -أي أن الشمس متعامدة عليها-، في الوقت الذي تلقي الشمس فيه ظلا للأشياء في مدينة الإسكندرية.
وبحسبة رياضية بسيطة، حسب “إيراتوستينس” محيط الكرة الأرض، فوجدها (252000) ستاديوم يوناني، وهو ما قدره بعض الباحثين بـ(24450) ميلا أو (39348 كم)، وهي نتيجة قريبة جدا من الرقم الحقيقي (40000 كم)، وتعد نتيجة مبهرة للغاية وفق الأدوات والتقنيات المحدودة التي كانت حاضرة.
وكان للمسلمين والعرب نصيبهم في تصحيح المسار المعرفي والمساهمة في إثراء العلوم، فقد قام الخليفة العباسي المأمون بتكليف الإخوة أبناء موسى بن شاكر بقياس قطر الأرض ومحيطها بدقة لم يسبقهم إليها أحد في بعثة علمية كانت الأولى من نوعها في صحراء سنجار شمال العراق، وحصلوا على نتيجة قريبة من التي قالها الأقدمون.4
إنّ المنهاج العلمي في العلوم الطبيعية يتجه دائما نحو تنقيح الأفكار، فيفنّد الأطروحات الخاطئة ويتحقق من صحة البقية، وبطبيعة الحال فعندما تسقط نظرية أو أطروحة علمية أمام البراهين الجازمة، فإنها تندثر إلى الأبد، ولا يأتي ذكرها إلا في مناسبات تتعلق بتاريخ نشأة وتطور العلوم في العصر البشري، وخير مثال على ذلك نموذج مركزية الأرض أو النظام البطلمي (Ptolemaic System) الذي ظلّ صامدا لقرون طويلة، قبل استبداله بالنموذج الحالي، وهو مركزية الشمس في المجموعة الشمسية.
لكن الحال يختلف هنا مع نموذج الأرض المسطحة التي توارت خلف الأنظار لسنوات طويلة قبل أن تظهر مجددا على الملأ، ليس هذا فحسب، بل إن تشكيلات تأسست في القرن العشرين أطلقت على نفسها “مجتمعات الأرض المسطحة الحديثة” (Modern Flat Earth Societies)، متبنية عودة النموذج القديم لشكل الأرض.