BAZNEWS/ سوريا
في تطورات دراماتيكية قد تعيد تشكيل فهمنا لأحد أكثر الملفات الأمنية تعقيداً في الشرق الأوسط، كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عن تفاصيل غير مسبوقة تتعلق باللواء بسام مرهج الحسن، الذي يُعدّ أحد أبرز الأذرع الأمنية للنظام السوري في عهد بشار الأسد. هذه الكشوفات لا تقتصر على إلقاء الضوء على دور الحسن المحوري في منظومة القمع السورية، لا سيما في ملف الأسلحة الكيميائية، بل تتجاوز ذلك لتلامس قضية الصحفي الأمريكي المختفي أوستن تايس، وتطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة العلاقة الجديدة بين هذا المسؤول الأمني الرفيع ووكالات الاستخبارات الغربية.
رحلة غامضة: من طهران إلى بيروت ولقاءات سرية مع المحققين الأمريكيين
وفقاً لما أوردته “نيويورك تايمز”، فإن اللواء الحسن، الذي كان يشغل مناصب حساسة في قلب النظام الأمني السوري، قد فرّ في ديسمبر الماضي في ظروف غامضة إلى إيران. هذه الخطوة، التي تمت بمساعدة مسؤولين إيرانيين، لم تكن سوى المحطة الأولى في رحلة أكثر تعقيداً. فبعد فترة وجيزة، انتقل الحسن إلى لبنان، حيث بادر، وبشكل “طوعي” كما تشير المصادر، بالاتصال بمسؤولين أمريكيين ولبنانيين. هذا الجانب من القصة يثير العديد من علامات الاستفهام، خاصة وأن مصادر استخباراتية أكدت أن الحسن لم يكن رهن الاعتقال في بيروت، بل كان يتمتع بحرية الحركة ويعيش في أحد أحيائها الراقية. هذا الوضع سمح لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) بعقد عدة جلسات استجواب معه في العاصمة اللبنانية، في سابقة قد تكون الأولى من نوعها لمسؤول سوري بهذا الحجم.
اعترافات صادمة: مصير أوستن تايس وتورط بشار الأسد
في منعطف بالغ الخطورة، نقلت صحيفة “واشنطن بوست”، استناداً إلى مصادر مطلعة، أن اللواء الحسن أدلى باعترافات مدوية للمحققين الأمريكيين تتعلق بمصير الصحفي الأمريكي أوستن تايس، الذي اختفى في سوريا عام 2012. ووفقاً لهذه المصادر، أبلغ الحسن المحققين أن بشار الأسد أصدر شخصياً أمراً بإعدام تايس في عام 2013، وذلك بعد فشل محاولة هروب من زنزانته. هذه المعلومة، إن صحت، تمثل دليلاً دامغاً على تورط رأس النظام السوري في جريمة اختفاء وقتل صحفي أجنبي، وتلقي بظلال قاتمة على المزاعم السورية المتكررة بعدم معرفة مصير تايس. وأشار الحسن إلى أنه حاول ثني الأسد عن هذا القرار دون جدوى، بل وذهب إلى حد تقديم وصف دقيق لموقع يُعتقد أن رفات تايس دفنت فيه داخل العاصمة دمشق. هذه التفاصيل، على الرغم من أنها لا تزال قيد التدقيق من قبل الجانب الأمريكي، إلا أنها تمثل خرقاً مهماً في جدار الصمت الذي أحاط بقضية تايس لأكثر من عقد من الزمان، وتفتح الباب أمام إمكانية الكشف عن الحقيقة الكاملة وراء اختفائه.
“الخال” وملف الكيميائي: قصة نفوذ وقمع
اللواء بسام الحسن ليس مجرد شخصية أمنية عابرة في المشهد السوري؛ بل هو أحد المهندسين الرئيسيين لمنظومة القمع التي اعتمدها النظام. فقد شغل منصب الرئيس الفعلي للأمن السوري في مرحلة مفصلية، وتحديداً كمدير للمكتب الأمني والعسكري في القصر الجمهوري بعد اغتيال العميد محمد سليمان عام 2008. هذا المنصب منحه نفوذاً واسعاً ومكنه من الإشراف على العديد من الملفات الحساسة. كما ترأس أركان قوات الدفاع الوطني، وهي ميليشيا أنشأها النظام بدعم مباشر من الحرس الثوري الإيراني، ولعبت دوراً كبيراً في الصراع السوري. وقد ارتبط اسمه بلقب “الخال”، وهو لقب يعكس قربه من الدائرة الضيقة للسلطة، نظراً لعلاقته العائلية بأمين عام الدفاع الوطني صقر رستم.
لكن الدور الأكثر خطورة للحسن يكمن في إشرافه المباشر على الوحدة 450، وهي الوحدة المسؤولة عن حماية برنامج الأسلحة الكيميائية السوري. هذا البرنامج، الذي لطالما كان مصدراً للقلق الدولي، شهد استخداماً واسع النطاق للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين السوريين. وبحسب تقارير دولية موثوقة، تم توثيق 221 حادثة استخدام للسلاح الكيميائي في سوريا، مما أدى إلى مقتل 1461 شخصاً وإصابة ما لا يقل عن 9753 آخرين. هذه الأرقام المروعة وضعت الحسن على رأس قوائم العقوبات الأمريكية والأوروبية والبريطانية والكندية، مما يؤكد تورطه المباشر في هذه الجرائم ضد الإنسانية.
شبكة نفوذ متعددة الجنسيات: علاقات مع طهران وموسكو وإدارة السجون السرية
لم يقتصر نفوذ اللواء بسام الحسن على الداخل السوري فحسب، بل امتد ليشمل شبكة علاقات دولية معقدة. فقد ارتبط بعلاقات وثيقة مع قاسم سليماني، القائد السابق لـ “فيلق القدس” الإيراني، الذي كان يُعدّ مهندس العمليات الخارجية للحرس الثوري الإيراني. هذه العلاقة تؤكد عمق التنسيق بين النظام السوري والقوى الإيرانية في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، كان للحسن تواصل مباشر مع القيادة الروسية في دمشق، مما يشير إلى دوره كحلقة وصل رئيسية بين دمشق وطهران وموسكو في إدارة الصراع السوري. هذه العلاقات المتشابكة تبرز مدى أهمية الحسن كشخصية محورية في رسم السياسات الأمنية والعسكرية للنظام.
إلى جانب دوره في الملفات الكبرى، كان للحسن دور مركزي في إدارة السجون السرّية التابعة للأمن الوطني. هذه السجون، التي تُعدّ جزءاً لا يتجزأ من آلة القمع السورية، شهدت احتجاز المئات من السوريين والأجانب دون تهمة أو محاكمة، وغالباً ما كان الهدف من ذلك الابتزاز المالي أو السياسي. هذه الممارسات، التي وثقتها منظمات حقوق الإنسان الدولية، تؤكد الطبيعة القمعية للنظام ودور الحسن الفعال في تنفيذ هذه السياسات.
مصير تايس: هل هي بداية الحقيقة أم فخ سياسي محكم؟
تظل المعلومات التي قدمها اللواء الحسن حول مصير الصحفي أوستن تايس قيد التدقيق والتحقق من قبل الجانب الأمريكي. ففي عالم الاستخبارات المعقد، لا يمكن قبول أي إفادة على أنها الحقيقة المطلقة دون تمحيص دقيق. ومع ذلك، فإن هذه الإفادات تمثل منعطفاً محتملاً في ملف الصحفي الأمريكي، الذي ظل غامضاً لأكثر من عقد من الزمان، ومصدراً للألم لعائلته. إن الكشف عن موقع دفن رفات تايس، إن تأكد، سيكون خطوة هائلة نحو إغلاق هذا الملف المؤلم.
لكن وكالات الاستخبارات الأمريكية تُبقي الباب مفتوحاً للشك، خاصة مع وجود اتهامات للحسن بمحاولة تبرئة نفسه بتحميل الأسد وحده المسؤولية عن إعدام تايس. هذا التكتيك ليس بجديد في أروقة الأنظمة القمعية، حيث يسعى المسؤولون المتورطون إلى التخفيف من وطأة جرائمهم بتحويل اللوم إلى شخصيات أعلى. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يتحدث الحسن من موقع التوبة والندم، أم أنه يؤدي دوراً جديداً في لعبة النفوذ الإقليمي، محاولاً كسب ود الغرب أو التخفيف من العقوبات المفروضة عليه؟ إن طبيعة هذه العلاقة الجديدة بين الحسن وواشنطن، وما إذا كانت ستؤدي إلى كشف حقائق أخرى حول مصير المعتقلين والمختفين في سوريا، هي ما ستكشفه الأيام القادمة.
خلاصة: أسئلة مفتوحة ومستقبل غامض
اللواء بسام مرهج الحسن ليس مجرد شاهد في قضية دولية، بل هو أحد الأعمدة الأمنية التي استند إليها النظام السوري في ترسيخ قبضته على البلاد. دوره المحوري في ملفات الاعتقال والتعذيب، وإشرافه المباشر على برنامج الأسلحة الكيميائية، يجعله شخصية لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا. وما بين محاولة الفرار من قبضة النظام، والتعاون “الطوعي” مع الأمريكيين، تظل الأسئلة مفتوحة على مصراعيها: هل يتحدث الحسن من موقع التوبة الحقيقية، ساعياً لتطهير سجله الملطخ بالدماء، أم أنه يؤدي دوراً جديداً في لعبة النفوذ الإقليمي المعقدة، محاولاً النجاة بنفسه أو تحقيق مكاسب سياسية؟
إن الأيام المقبلة وحدها هي التي ستحمل الإجابات على هذه التساؤلات. فمصير أوستن تايس، ومستقبل اللواء بسام الحسن، وما سيكشفه من معلومات إضافية، كلها عوامل ستحدد مدى تأثير هذه التطورات على المشهد السوري والإقليمي. إنها قصة تتشابك فيها خيوط السياسة والأمن والجريمة، وتكشف عن وجه آخر للصراع السوري الذي لا يزال يلقي بظلاله على المنطقة والعالم.