سوريا – مروان مجيد الشيخ عيسى
من يبحث في تاريخ إيران وفتح باب التشيع في سوريا، يعلم أن سوريا ماقبل حافظ الأسد كانت شبه خالية من المليشيات الشيعية، ومن مراقدهم الكاذبة.
نشرت وكالة أنباء “تسنيم” الإيرانية، قبل أيام، مقابلة مع محمد رضا واحدي، ابن رجل الدين الشيعي أحمد واحدي جهرمي – الممثل السابق للخميني في سوريا – بمناسبة “أربعينية” وفاة “الخميني” (مؤسس مايسمى بالجمهورية الإسلامية في إيران.
وكشفت المقابلة عن معلومات مهمة حول أولى عمليات نشر التشيّع في سوريا خلال عهد حافظ الأسد، إضافةً إلى تفاصيل مهمة عن العلاقة السرية بين نظام حافظ الأسد و”الخميني”، الذي سيتسلّق فيما بعد سلّم السلطة في إيران، عام 1979.
وكانت وكالة “تسنيم” قد نشرت، في وقت سابق من عام 2017، مقابلة مع واحدي الأب، كشفت فيها عن تفاصيل مهمة حول نشاطاته في سوريا وعلاقاته القوية مع نظام الأسد الأب والابن، وهو ما شكّل صورة واضحة عن مجريات تلك الحقبة الزمنية المهمة والغامضة من تاريخ هذه العلاقة السرية وتداعياتها المحلية والإقليمية، من خلال مقارنة المعلومات المنشورة في المقابلتين مع “واحدي الأب (أحمد جهرمي) والابن (محمد رضا)”، رغم التباعد الزمني بينهما.
تبدأ المقابلة التي أجرتها “تسنيم” مع واحدي الابن تحت عنوان “المهاجر المجاهد الذي أبكى حافظ الأسد في عزاء علي أكبر (ع)، وصلى على جثمانه صلاة الشيعة”، بالتعريف بتاريخ “واحدي الأب” ونشاطاته “الدعوية” في البلدان العربية، ثم تتطرق لـ موضوع سوريا، التي بدأت نشاطاته فيها منذ أن قابل فيها “واحدي” الأب مجموعة الطلاب الشيعة الباكستانيين والأفغان والهنود، ممن طردهم نظام صدام حسين من العراق وتم ترحيلهم إلى سوريا، بعد أن لجؤوا إلى مقام السيدة زينب في دمشق.
ويقول “واحدي” الابن، الذي درس في لبنان حينئذ: “في إحدى رحلات أبي جاء إلى لبنان لزيارتي، ثم ذهب إلى سوريا للحج ومكث هناك مدة يومين أو ثلاثة أيام والتقى بالطلاب المنفيين. لكنه رأى أن الشيعة السوريين ليس لديهم وصي ولا يعرفون حتى قواعدهم الشرعية الخاصة”.
وفي سياق ردّه على سؤال “تسنيم” حول معنى عدم وجود وصي للشيعة السوريين يقول: “لم يكن أحد معارفنا من الشيعة السوريين يعرف أن وضوء الشيعة يختلف عن وضوء أهل السنة، وقال لأمي: نعرف أننا شيعة، لكنني لا أعرف شيئاً عن ماهية الشيعة وما هي قواعدهم ومعتقداتهم”، مردفاً: “الحالة الأخرى كانت حالة العلويين هناك، الأمر الذي جعل والدي يفكر كثيراً”.
ورداً على سؤال “مَن هم العلويون”، يقول “واحدي الابن”: “حافظ وبشار الأسد من العلويين. هم فرقة من الشيعة. كان المتشددون وكبار السن منهم من العلويين، لكن جيلهم الجديد، مثل حافظ الأسد، شيعة، وقد اعترفوا بذلك بأنفسهم”.
ويشير “واحدي” الابن إلى أن أباه رأى أن “هؤلاء (العلويين)، الذين يتمتعون بالسلطة، يحتاجون إلى التعرّف إلى الثقافة والتعاليم الشيعية لتكون أكثر رسوخاً وقوة فيهم”.
في خضم ذلك، تشير المقابلة الأولى عام 2017 مع “واحدي” الأب إلى أن نشاطاته تركّزت في سوريا بعد لقائه الطلاب المنفيين على كسب لقمة العيش بداية من خلال استضافة قوافل الزوّار الدينيين القادمين إلى سوريا حينئذ، وعقد جلسات عزاء لهم والحصول على مقابل مالي، لكن هذه النشاطات ما لبثت أن توسعت بعد صعود “الخميني” إلى السلطة في إيران وتوليته ممثلاً له في سوريا بعدها.
وبحسب ما يشير “واحدي” الأب إلى موضوع مهم، كان منزله في سوريا يؤوي أحياناً بعض من أسماهم بـ”المناضلين الثوريين”، الذين فرّوا من “نظام الشاه”، إذ يقول: “ذات مرة، اتصل القائم بالأعمال بسفارة الشاه في سوريا، الدكتور مجد، وقال: أريد المجيء إليكم. قلت تفضل وجاء وجلس في غرفتنا. بالمناسبة، في صباح ذلك اليوم، أحضر المرحوم جمران، حقيبة من المناشير المناهضة للشاه إلى منزلنا”.
ويضيف: “كان منزلنا أيضاً مكاناً يتم فيه توزيع المنشورات. ثم جاء الدكتور مجد وجلس في الغرفة نفسها بجوار كيس المنشورات. وقال: أنا أحترمك. أنت رجل كبير السن وعليك أن تذهب إلى إيران. قالوا للشاه إنك تؤسّس ميليشيات للتخريب في سوريا وترسلهم إلى إيران، وطلب مني توضيحاً”، وهو ما نفاه “واحدي الأب” متسائلاً بنبرة ضاحكة: “ألهذا الحجم عظم قدري حتى وصل إلى مسامع الشاه؟”.
عموماً، كان “واحدي” الأب الموجود في سوريا على اتصال ومكاتبات مستمرة حينذاك مع “الخميني” في النجف العراقية، وبعد ذهابه إلى فرنسا، بحسب ما تشير المقابلتان، لكن الأوضاع المادية والدعم الكبير الذي حظي به “واحدي” الأب من “الخميني” وحافظ الأسد، ونشاطاته على المستوى الديني في سوريا لم تكن بهذا المستوى الكبير قبل تسلق الخميني إلى السلطة في إيران.
على سبيل المثال، يقول “واحدي” الابن إنّه عندما ذهب والده إلى سوريا “لم تكن المراجع الدينية متفائلة بنتائج عمله، حتى أن المرجع الديني الشيعي في إيران (غلبايغاني)، قطع ذات مرة منحته الشهرية ثم أعادها له”.
وبحسب “واحدي” الابن، كان جواب “واحدي” الأب لـ”غلبايغاني” على قطع منحته الشهرية هو: “حقيقة أن يسافر هذا اللباس (في إشارة إلى ملابس الملالي) كمظهر من مظاهر الشيعة إلى أرض الأمويين، هي بذاتها دعاية لإمام الزمان. ماذا تريد أكثر من ذلك؟”.
ويتابع “واحدي” الابن حديثه متفاخراً بأعمال أبيه: “كل المدارس والمكاتب والمعاهد التي تنشر التشيّع في سوريا اليوم ويحملون في أيديهم العلم الشيعي، كلها جاءت بعد الحاج آغا (“واحدي” الأب)، أي أنه قدم المنصة للآخرين في المستقبل. وشيئاً فشيئاً، تم تشكيل علاقات أفضل حتى أنه أقام علاقات وصداقة مع المؤسسات الحكومية السورية، بعد خمس سنوات من الجهاد”.
ووفق تأكيد “واحدي” الأب: بدأ عمله في سوريا مع 24 شخصاً ثم ازداد حتى بلغ عددهم نحو 300 شخص، وأخيراً أصبحت الحوزة العلمية حوزة رسمية هناك”.
وفي إشارة إلى رغبة حافظ الأسد بقدوم “الخميني” إلى سوريا، في ذلك الوقت، يقول “واحدي” الابن: “كتب أبي رسالة إلى الإمام (الخميني) عندما كان في العراق وطلب منه المجيء إلى سوريا. كانت علاقة أبي الحكومية وقاعدته جيدة حينئذ، بسبب وجود حافظ الأسد، لكن الإمام أجاب أبي بأن الأصدقاء قرّروا أنه سيكون من الأفضل لنا أن نذهب إلى فرنسا لأنّ أصواتنا ستسمع أكثر هناك، وشكره كثيراً وطلب منه أن يدعو الله لانتصار الثورة”.
ثم يشير “واحدي” الابن إلى أن “واحدي” الأب، الذي كان يعاني من ضائقة مالية في السابق، استطاع بعد انتصار الثورة في إيران وتسلّق “الخميني” إلى السلطة، أن يحصل على “توقيع من حافظ الأسد بنفسه”، لشراء قطعة أرض هناك وبناء حسينية كبيرة، وبناء عيادة صغيرة تسمى (مستشفى الزهراء الخيري) أمامها”، خلافاً لما كانت تروج له حكومة حافظ الأسد بعدم إعطاء حق التملك لغير السوريين.
وفي إشارة أخرى إلى المحرّمات التي كانت تروّج لها “حكومة الأسد” بصعوبة، منح الجنسية السورية لغير السوريين، يكشف “واحدي” الابن عن معلومة مهمة أخرى قل ما تنشر بشكل علني على وسائل الإعلام، بقوله: “استطاع أبي أن يحافظ على استقرار علم الشيعة هناك، واستغل العلاقات التي تربطه بحافظ الأسد في هذه القضية لتقوية موقف الشيعة، حتى أن الحكومة السورية اقترحت منحه الهوية والمواطنة السورية، لكنه رفض وقال إنني إيراني وسأبقى إيرانياً”.
وعن فحوى العلاقة السرية مع حافظ الأسد، يقول “واحدي” الابن: “في أحد اللقاءات، طلب حافظ الأسد من والدي أن يطلب من الإخوة الشيعة زيادة أنشطتهم وتعزيزها في سوريا، لأنه من غير المعروف ماذا سيحدث بعدي”.
هذا الموضوع يؤكده “واحدي” الأب في المقابلة الثانية بشكل أو بآخر عندما يقول: “كان لدينا اجتماع في قصر حافظ الأسد وكان يحترمنا كثيراً، جاء السيد (خلخالي) إلى سوريا وذهبنا معه إلى القصر الرئاسي. جلست بجانب كرسي الرئيس وتبادل بعض العبارات معي. ثم قدّم لكل واحد منا القرآن كهدية، وعندما هممنا بالرحيل، أشار إلي بالانتظار. وقفت ووضع رأسه ببطء بجوار أذني وقال “سيدي، يجب أن تتواصل وتتردد مع إخوتي”. كان يقصد الإخوة “العلويين”، مردفاً “في اجتماعات أخرى غير رسمية، كنت أراهم وأسأل عن أحوالهم”.
وفي الجزء الأخير من المقابلة مع “واحدي” الابن، والتي يبدو أنها لم تُنشر بشكل كامل لتبقى بعض المعلومات المهمة طي الكتمان، يأتي الحديث عن وفاة حافظ الأسد وطلب “واحدي” الأب من بشار الأسد الصلاة عليه صلاة الشيعة، حيث يقول: “عندما انفردت ببشار الأسد قلت له: أشهد أن والدك كان شيعياً، والصلاة التي صليت عليه كانت صلاة سنية، وبما أنك وصيه فأريد أن استأذنك بالصلاة عليه صلاة الشيعة على الميت. كان بشار سعيداً جداً وقال من فضلك افعل هذا”.
ومن خلال هذا اللقاء، وكلام المسؤول الإيراني يتضح غدر حافظ الأسد ليس بسوريا فحسب، بل غدر بالأمة كلها، وباع سوريا وشعبها لمالي طهران، وأكمل على الباقي ابنه بشار.