درعا – مروان مجيد الشيخ عيسى
تعتبر درعا أولى المناطق السورية التي هتف مواطنوها ضد النظام السوري، وطالبوا بإسقاطه، ورغم سيطرة النظام السوري عليها بعد عام 2018، إلا أن الأصوات المنادية بالحرية وإسقاط بشار الأسد لم تنقطع فيها.
كما تتميز بوضع خاص يميزها عن باقي المناطق السورية التي دخلت في اتفاقيات التسوية، من حيث طبيعة القوى العسكرية المسيطرة على قراها وبلداتها، وأيضا طبيعة المقاتلين، وتفاصيل سيطرة النظام عليها، التي توصف بالهشّة، كما حال جارتها السويداء.
ولا يكاد يمر يوم على درعا حتى تشهد هذه المحافظة الواقعة في جنوبي سوريا حوادث قتل واغتيال واشتباكات مسلحة، تسفر عن ضحايا مدنيين وقتلى عسكريين من مختلف الأطراف، ورغم أن جذور هذا المشهد تعود إلى ما بعد اتفاقيات “التسوية” التي جرت بعد عام 2018، إلا أن دائرة “الفلتان” باتت تتوسع بمنحى جديد، يتلخّص بمواجهات “عصابات الفرع الأمني الواحد”، كما يصف نشطاء ومراقبون.
فقبل خمسة سنوات انتهى الهجوم الذي أطلقته قوات النظام السوري بدعم روسي باتفاقيات تسوية استنسخت لعدة مرات وفي مناطق متفرقة وكثيرة. وبموجبها انضوى من فضّل البقاء من عناصر فصائل المعارضة ضمن تشكيلات مسلحة تتبع لأفرع أمنية مثل الأمن العسكري والمخابرات الجوية وفرق عسكرية كالفرقة الرابعة وفيلق مدعوم روسيا الفيلق الخامس، في خيارٍ يخالف ما كانوا عليه في البدايات.
ولطالما تردد ذكر هذه التشكيلات وعناصرها في المحطات التي عاشها الجنوب السوري، خلال السنوات الماضية، وفي وقت بقي عداد القتل المسجّل ضد مجهول متواصلا، دون أن يعرف لها صيغة تنظيمية، فيما كان لكل منها منطقة نفوذ، في أحياء درعا والقرى والبلدات الواقعة في ريفها.
ونادرا ما تشير الرواية الرسمية للنظام السوري إلى المسار الذي سلكه من فضّل البقاء من فصائل المعارضة، لكن في المقابل تحدث الأخير في أوقات عديدة عن وجود مجموعات أهلية، سبق وأن ساندته في عمليات أمنية وعسكرية، بينها ضد مقار خلايا لتنظيم الدولة “د ا ع ش”.
وبينما كانت درعا ليلة الجمعة تترقب ما ستسجله من حوادث قتل واغتيال مع بزوغ اليوم المقبل شهد ليلها توترا لساعات فرضته اشتباكات مسلحة اندلعت بين مجموعتين الأولى تعرف بتبعيتها لفرع الأمن العسكري، والثانية كذلك الأمر.
وأسفرت المواجهات عن قتلى من المجموعتين وعناصر من الشرطة التابعة للنظام السوري، بينما حصدت روح طبيب الأعصاب السوري، علي بركات السعد، في أثناء خروجه من مشفى الشرق الخاص في حي الكاشف. رصاصة طائشة طالته بينما كان إطلاق الرصاص على أشده.
وتشير الحادثة المذكورة التي تخللها أيضا عمليات قطع للطريق الدولي الواصل إلى معبر نصيب إلى الحال الخاص بهذه التشكيلات، وتعطي مؤشرا عن مفارقة تشوب العلاقة فيما بينها، فهي تتصادم رغم أنها ترتبط بذات التبعية.
وكان المرجو من اتفاق التسوية حين توقيعه فرض حالة من الاستقرار في المحافظة التي كانت أجزاء كبيرة منها خارجة عن سيطرة نظام بشار الأسد، على أن تتبع ذلك تسوية أوضاع المطلوبين أمنيا، وإعادة الخدمات وإصلاح البنى التحتية.
لكن جميع ما سبق لم يطبّق على أرض الواقع، على خلفية عدة أسباب، أبرزها عدم التزام النظام السوري بأيٍّ من المطالب، وخاصة الإفراج عن المعتقلين ووقف عمليات المداهمة والاقتحام.
ما سبق جعل درعا، التي انطلقت فيها أولى شرارات الثورة السورية، تدور ضمن متاهة قتل وفلتان أمني، لا تعرف الأطراف المستفيدة منها أو الدافعة لفرضه باستمرار على الأرض.
وبينما يوجه البعض اتهامات لتنظيم الدولة “د ا ع ش” بالوقوف وراء الاغتيالات، يرجّح آخرون مسؤولية النظام السوري وأفرعه الأمنية، ويعزو طرف ثالث الأسباب بطبيعة الأطراف المسيطرة على الأرض، وسياق تضارب المصالح ومساعي الأخذ بالثأر لقضايا تعود قصتها إلى ما قبل التسوية.
وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد وثق في الثامن عشر من شهر كانون الثاني الحالي مقتل عنصرين من المجموعات المحلية، وإصابة مواطن وطفل بجروح بليغة، إثر اندلاع اشتباك مسلح بين مجموعتين محليتين، إحداها تابعة للأمن العسكري في مدينة جاسم بريف درعا الشمالي.
وقد نشب خلاف بين عنصرين، ليتطور إلى اشتباكات، واستقدام الطرفين تعزيزات عسكرية إلى مكان الاشتباك، وسط توتر ساد في المنطقة.
فالمجموعات المحلية التي ارتبطت بالأفرع الأمنية بعد اتفاقيات التسوية ليست وليدة ولاء، بل تشكلت إما بهدف البقاء أو للسلطة وتعزيز المكاسب المادية، وأنها أولا وأخيرا لها أهدافها الخاصة.
ولم تتشكل لأنها تحب الأمن العسكري أو النظام السوري، بل لحماية مصالحها، ومن الطبيعي جدا أن نرى الصدام فيما بينها في حال تضاربت مصالحها.
هذه المجموعات تأكل من نفس الصحن كما هو معروف. ولذلك تدفعها هذه الحالة للتصادم، ومن سيحظى بكل المصالح من حساب من.
فالأفرع الأمنية التابعة للنظام السوري موجودة في كل مكان بدرعا، وأن العناصر التابعين لها ينتشرون في معظم القرى والبلدات، بينما تتشكّل عملية توزيع السلطة على من له التركيز الأكبر قياسا بالآخر.
ويتركّز نشاط الأمن العسكري في الريف الغربي لدرعا، وللمجموعات المحلية التابعة لها النفوذ الأكبر هناك، ومع ذلك يوجد نفوذ لأفرع أخرى لكن على درجة أقل.
فمدينة جاسم مثلا تحسب على نفوذ فرع أمن الدولة، وهذا لا ينفي نفوذ الأفرع الأخرى وهكذا… القصة ليست تقسيم مناطق سيطرة بقدر ما هي توزيع للنفوذ.
فالصدام الذي يحصل بين الفترة والأخرى بين المجموعات التي تعرف بأنها تتبع لذات الفرع الأمني يرتبط بالمصالح الشخصية، على خلاف الصورة العامة الخاصة بأجهزة النظام السوري الأمنية.
وما حصل ليلة الجمعة من اشتباك بين مجموعتين تتبعان للأمن العسكري هو أقرب لصدام العصابات من صدام عناصر أمنية بشكل رسمي”،فالعناصر يحملون بطاقات أمنية، ويأتي الصدام فيما بينهم لحماية المصالح.