بعد صعود التيار القومي التركي، انفجر الوضع بالقسطنطينية، التي كانت على موعد مع ثورة تركيا الفتاة سنة 1908 وإزاحة السلطان عبد الحميد الثاني من سدة الحكم خلال العام التالي.
وتزامناً مع ظهور التيار القومي التركي الذي منح الأتراك مزيداً من النفوذ وكرّس سيادة العنصر التركي واحتقاره لبقية الشعوب التي شكلت نسيج الدولة العثمانية، ارتفعت بمختلف المناطق التي هيمن عليها الأتراك الأصوات التي نادت بضرورة المساواة بين القوميات، فضلاً عن ذلك تشكل العديد من الحركات القومية الأخرى التي أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن شعوبها المضطهدة من قبل الأتراك، ولعل أبرزها.. المنظمة الثورية المقدونية، وحزب الشعب الاتحادي البلغاري، وحزبا الهنشاك وأرمناكان الأرمينيان، وجمعية العربية الفتاة التي ظهرت بباريس عام 1911 على يد مجموعة من الطلاب والمثقفين العرب من أمثال العراقي توفيق السويدي، والسوري جميل مردم بك، والفلسطينيين رفيق التميمي، وعوني عبد الهادي.
حظيت الحركات القومية العربية بدعم كبير في الشام، وساند عدد كبير من المثقفين التطلعات المطالبة بمزيد من الحقوق والمساواة بين الأتراك والعرب، وإصلاح برنامج الضرائب والتجنيد، حيث حبّذ الجميع حينها بقاء المجندين العرب للعمل بأوطانهم وعدم إرسالهم نحو المناطق النائية أثناء فترات السلم.
سنة 1914، أقحم الأتراك أنفسهم في الحرب العالمية الأولى بسبب تحالفهم مع الألمان، لتشهد بذلك بلاد الشام تغييراً جذريا، حيث ألغى الأتراك الحقوق التي منحوها في وقت سابق لمناطق لبنان وعينوا في العام 1915 وزير البحرية جمال باشا، الملقب بالجزار كحاكم على بلاد الشام ومنحوه سلطات لا متناهية ليصبح بذلك الأخير الحاكم المطلق لهذه المنطقة.
ومع استلام جمال باشا زمام الأمور بدأت معاناة اللبنانيين حيث حاول الأخير فرض حصار على السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط لقطع إمدادات البريطانيين فمنع الغذاء عن اللبنانيين وصادر محاصيلهم القليلة وتسبب في مجاعة أودت بحياة ما لا يقل عن 200 ألف لبناني.
خلال نفس الفترة، وجّه جمال باشا ناظره لكبار المثقفين بكل من سوريا ولبنان عاقدا العزم على التخلص منهم، خوفا من تنامي الفكر القومي العربي فأمر باعتقال العديد منهم، ووجه لهم تهما ملفّقة مثلا: “التعاون مع العدو، والتخابر ضد الدولة العثمانية”.
وفي زنزانات الأتراك، خضع المعتقلون لأشد أنواع التعذيب لإجبارهم على تقديم أسماء بقية القوميين. وبالتزامن مع ذلك، ظهرت قضية حزب اللامركزية الإدارية العثمانية والذي برز عام 1912 بالقاهرة على يد عدد من المثقفين السوريين لإقرار مبدأ اللامركزية بالحكم. وبناء على أوامر جمال باشا، اعتقل عدد من أعضاء حزب اللامركزية ليحاكموا ويساقوا نحو حبل المشنقة.
ويوم 20 آب/أغسطس 1915، كانت بيروت شاهدة على أولى عمليات الإعدام، حيث عمد عساكر العثمانيين على تجميع الأهالي بساحة نصبت بها المشانق، وأعدموا عددا من القوميين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين من أمثال عبد الكريم الخليل ومحمد ومحمود المحمصاني ونور الدين القاضي وسليم أحمد عبد الهادي ومحمد مسلم عابدين. ويوم 5 نيسان/أبريل 1916، تم تنفيذ حكم الإعدام شنقا في حق يوسف الهاني أحد مشاهير الموازنة بلبنان.
ويوم 6 أيار/مايو 1916، كانت دمشق وبيروت على موعد مع يوم دام، حيث شهدت ساحة المرجة بدمشق التي تحولت لاحقا لساحة الشهداء إعدام الأتراك 7 من كبار المثقفين والقوميين العرب، كان من ضمنهم الأمير عمر الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، والكاتب رشدي الشمعة، والشاعر والأديب شفيق بك مؤيد العظم، والشاعر رفيق رزق سلوم والمفكر والصحافي عبد الحميد الزهراوي.
أما بيروت فقد عرفت ساحة البرج، التي سميت لاحقا أيضا ساحة الشهداء، إعدام 14 فردا من النخبة المثقفة، وقد تضمنت القائمة كلا من الكاتب والصحافي عبد الغني العريسي، والمفكر سليم الجزائري، والمؤلف والشاعر عمر حمد، والشاعر والصحافي جورج حداد.
ولتخليد هذا اليوم الدامي بكل من بيروت ودمشق، تحتفل كل من لبنان وسوريا سنويا يوم 6 أيار/مايو بعيد الشهداء.