الذاكرة السياسية

مجزرة باب عمر
اجتياح حمص أو معركة الحسم هي حملة شنها الجيش السوري على مدينة حمص خلال شهر شباط عام 2012، أدت إلى سقوط قرابة 1,000 قتيل و1,800 جريح حتى الآن. وقد جاءت المجزرة في اليوم الذي صادف إحياء الذكرى الثلاثين لمجزرة حماة التي وقعت عام 1982، والتي سُمَّي يوم المجزرة نسبة إليها بـ”جمعة عذراً حماة”.
فوق الأرض وتحتها..أكثر من 4 آلاف ضحية في “باباعمرو” وبساتينها الحمراء قُتلوا مرتين
دفعت حمص ضريبة عالية جداً من الضحايا، وكانت من أولى المحافظات التي فتك بها جيش النظام.
المدينة التي اعتبرها السوريون عاصمة ثورتهم تعني الكثير لنظام الأسد أيضا، فهي تربط الشمال السوري، فاعتبر (الأسد) أن خسارته لحمص تعني بداية خسارته في كل سوريا.
ولعل المزيج الطائفي داخل المدينة إضافة إلى مجاورتها للمناطق التي تعتبر خزانا بشريا لفئات شديدة الولاء لأسباب طائفية كان سببا رئيسيا لطلائع المجازر والقتل على أساس طائفي ارتكبتها ميليشيات من داخل الحدود وخارجها كان الحقد الطائفي القاسم المشترك بينهما بتخطيط من الأسد وداعميه في إيران ولبنان.
يجمع مراقبون على أن حمص وريفها شهدت أفظع مجازر النظام وأشدها بشاعة، لا سيما في بداية الثورة خلال اجتياح قوات الأسد وميليشياته لحي “بابا عمرو” وجوارها.
تقول مصادر محلية إن مجزرة “بابا عمرو” هي الأولى في سوريا من حيث عدد الضحايا، فلا أحد حتى تاريخه يستطيع أن يحصي أو أن يعرف بالضبط عدد القتلى الذين سقطوا داخل “بابا عمرو” بعد أن اقتحمها جيش النظام، كون هذه البلدة شكلت حاضنة ضمّت ثواراً من مختلف أحياء حمص.
ولكن يبقى السؤال أين أصبحت جثث هؤلاء الشهداء الذين سقطوا في حي “بابا عمرو”، ولماذا لم نرَ أو نسمع عن اكتشاف أي مقبرة جماعية داخل مدينة حمص أسوة بالمحافظات الأخرى رغم مرور السنوات الطويلة على تلك المجزرة.
وتفيد معلومات متقاطعة بأن عدد ضحايا التصفية الطائفية في “بابا عمرو” وجوارها بلغ نحو 4300 قتيل غالبيتهم الساحقة من المدنيين، في حصيلة للمواجهات الدامية مع جيش وميليشيات النظام منذ اندلاع الثورة وحتى سقوط البلدة بيد النظام في آذار مارس/2012.
ولا شك أن هذه الحصيلة من الضحايا تضم عشرات من الثوار والمقاتلين الذين جاؤوا من بقية الأحياء لمؤازرة أبناء مدينتهم في هذا الحي الذي كان له السبق في الخروج عن سيطرة النظام.
إبادة عوائل بأكملها
ضمن هذا السياق تكشف “زمان الوصل” حقائق ومعلومات موثقة بالصور الجوية عن أمكنة دفن جثامين ضحايا “بابا عمرو”.
في بداية العام 2012 بدأت قوات مؤلفة من الحرس الجمهوري والفوج 555 من الفرقة الرابعة وقوات من ميليشيا “حزب الله” اللبناني هجوماً كبيراً على حي “بابا عمرو” المحاصر، تدعمهم قوات من الفوج 168 مضاد دروع، ومدفعية وراجمات صواريخ من الفوج 64 المتمركزين قرب بلدة “شنشار” (جنوب حمص 16 كم)، كما دفع النظام بميليشيات محلية قوامها المئات من الشبيحة الطائفيين القادمين من المناطق والأحياء الموالية داخل مدينة حمص وخارجها إلى جانب مليشيا شيعية من القرى المحيطة بالمدينة.
وبحسب زمان الوصل عن مصدر مسؤول يؤكد أن الأوامر جاءت وقتها من الأسد شخصياً بحسم موضوع “بابا عمرو” بعد مفاوضات قادها آصف شوكت وانتهت بالفشل. شهود عيان ومصادر أهلية أجمعت على أن القتل المباشر كان مصير كل من تصل إليه يد هذه الميليشيا.
وتعرض الأهالي لمجازر كانت نتائجها إبادة عوائل بأكملها داخل بيوتها وبساتينها، ولعل ذنب أكثرهم أنهم من سكان تلك البقعة من الأرض، آثروا البقاء فيها رغم المخاطر الواقعة عليهم مع بداية الحراك الثوري العسكري هناك، ونذكر منها مجازر بحق “آل صبوح” في بساتين باباعمرو و”آل الزعبي” و”آل الرفاعي الوزير” في بساتين “جوبر”.
وتقسم “بابا عمرو” إلى قسمين منطقة السكن وتضم البلدة وامتدادها من توسع عمراني يشمل حي “السلطانية” و”جورة العرايس” حتى الوصول لبلدة “جوبر” ومنطقة البساتين الواقعة إلى الغرب من القرية.
وعمدت قوات النظام إلى إحراق بعض البيوت بمن فيها بعد قتلهم جميعا لتفنى أجساد الضحايا وبينهم الكثير من الأطفال والنساء والشيوخ، ولا يبقى إلا رماد أجسامهم داخل تلك البيوتات، كما كان عناصر الميليشيات وجيش الأسد أحياناً يقومون بجمع جثامين في مكان وجود علف الحيوانات (التبن) ثم يشعلون المكان حتى لا يبقى أثر لأي جثة، وقد تكررت هذه الحادثة مئات المرات، بحسب مصادر أهلية.
المصادر نفسها أكدت أن البعض الآخر ممن تمت تصفيتهم داخل الأراضي الزراعية، عمد عناصر النظام إلى طمرهم هناك، حيث كان يتم تجهيز حفر صغيرة لا تتجاوز عمقها بضعة سنتميترات مستفيدين من مئات الحفر التي كانت تحدثها قذائف مدفعيته وطيرانه وصواريخه ليتم وضع جثامين الضحايا بداخلها ثم ردم التراب عليها، ولا تكاد تجد بستاناً واحداً من البساتين المتواجدة هناك يخلو من عدة جثث بعضها قد نهشتها الكلاب بعد أن نبشت التراب الذي فوقها.
مقر الاعتقال والتحقيق والتصفية:
اتخذت المليشيا الطائفية خلال حصارها لبلدة بابا عمرو ومحيطها مقراً لتوقيف المعتقلين، يقع على طريق التحويلة بعد جسر “جوبر” بحوالي كيلومتر واحد، وهذا المقر في الأساس عبارة عن شركة أوغاريت للمشروبات الغازية والتي تعود ملكيتها لأحد لصوص النظام وهو عميد كان يخدم في أجهزة أمن النظام اسمه العميد “علي اسماعيل”، حيث اتخذت قوات الحرس الجمهوري من هذه الشركة مقراً للاعتقال والتوقيف، وكان يتم فيه سجن وتعذيب كافة المعتقلين من أبناء تلك المنطقة، ويتبع لهذه الشركة مستودع كبير نحو 500 متر مربع، كان بمثابة المكان الرئيسي للتوقيف والتعذيب والتصفية وقد تمت بداخله جرائم يندى لها جبين الإنسانية بحق الرجال والنساء على السواء، وحسب أحد أبناء المنطقة الذين عايشوا تلك الفترة بكل دقة فقد تجاوز مجموع الذين تمت تصفيتهم داخل هذا المعتقل لوحده حوالي 460 شخصاً بين رجل وامرأة على مدى أشهر خوض المعارك هناك مع النظام.
مقبرة الشماس (الشهداء):
في البداية وعلى امتداد عدة أشهر من المواجهات والحصار وقبل اقتحام النظام كان ثوار “بابا عمرو” يدفنون شهداءهم في المقابر الموجودة داخل البلدة أو بالقرب منها، كما كانوا ينقلون بعض الشهداء إلى مقبرة تم افتتاحها حديثاً في حي “الشماس” المجاور لحي “بابا عمرو” من الجهة الشرقية، والذي كان يضم المشفى الميداني الأساسي للجرحى أيضاً، حيث كان ينقل إليه جرحى المواجهات مع النظام والذي قضى فيه عدد كبير من الجرحى الذين لم ينجح الفريق الإسعافي بعلاجهم بسبب حاجتهم إلى مداخلات طبية كبيرة تقصر خبرة الفريق الطبي والمعدات الموجودة هناك عن تلبيتها، أيضاً هؤلاء الضحايا كانوا يدفنون في هذه المقبرة والتي تعرف بين المدنيين هناك باسم “مقبرة الشهداء”، حيث دفن فيها بداية عدد من أبناء حي “الشماس” الذين كانوا يناصرون حي “بابا عمرو” وتمت تصفيتهم على يد النظام.
أهرامات الجثامين في المشفى العسكري
بالنسبة لبعض الذين قتلهم النظام وميليشياته داخل الأحياء السكنية مثل “بابا عمرو” و”جورة العرايس” و”السلطانية” و”جوبر”، فقد تم نقل معظمهم إلى المشفى العسكري بحمص وتم رميهم هناك.
مصادرمتطابقة تفيد بأن أهالي حي “بابا عمرو” المتواجدين خارجه شكّلوا لجنة للتفاوض مع النظام من أجل استلام الجثامين التي سحبها النظام ليصار إلى دفنها، وكانت هذه اللجنة برئاسة الشيخ “معن طعمة” خطيب جامع “الجيلاني” في “بابا عمرو”، وهو شخصية معروفة ومحبوبة لدى كافة أهالي “بابا عمرو” وجوارها، وكان يرافقه عدة شخصيات أخرى منهم الشيخ “خالد الأقرع” من قرية “جوبر” و”حسان الشمالي” من قرية “كفرعايا” وغيرهم، وقد نقل عن الشيخ معن (المتواجد في الأردن حالياً) أنهم عندما زاروا المشفى العسكري بحمص كانت الروائح فظيعة إلى درجة لا تطاق، والجثامين مرمية ومكدسة فوق بعضها البعض وحتى أن بعضها يعود لعناصر النظام وليست فقط للأهالي، عناصر من الذين أظهروا تعاطفا مع الضحايا تمت تصفيتهم ميدانياً بتهمة مناصرتهم للثوار أو نيتهم الانشقاق.

وقد وضع النظام عدة شروط من أجل الموافقة على تسليم الجثامين، ومن هذه الشروط أن توزع هذه الجثث وتدفن في المقابر التي يحددها النظام، وأن يتم تسلم الجثث على دفعات، وأن يتم دفن كل دفعة من هذه الدفعات في مقبرة احدى القرى التي يحددها ضباط النظام، وأين يتم الدفن ليلاً، وأن لا يتم تصوير أو نشر ذلك للإعلام.

تحت ضغط الموقف وافقت اللجنة على كامل هذه الشروط، وتم استلام عدة دفعات، حيث تم نقلها إلى مقابر القرى التي حددها النظام، وقد تم دفن الأعداد التالية في مقابر هذه القرى:

(مقبرة الديبة: تم دفن 380 جثمانا دفعة واحدة، مقبرة البويضة: تم دفن 80 جثمانا، مقبرة كفرعايا: تم دفن 75 جثمانا، مقبرة مسكنة: دفن فيها عدد قليل يتجاوز 30 بقليل، مقبرة الجديدة: حوالي 60 جثمانا، شنشار: حوالي 50 جثمانا، ومقبرة آبل الجديدة: حوالي مئة جثمان، قام النظام بتخريبها والعبث بها لاحقا).

وقد بلغ مجموع الجثامين التي تم دفنها وتوزيعها على تلك المقابر 750 جثمانا، حيث كان يتم حفر الخندق ودفن الجثامين، ومن ثم تغطية القبور بألواح من التوتياء ثم ردم التراب فوقها.
وكانت الامور تسير بهذا الشكل حتى قام ثوار “البويضة الشرقية” بتصوير الجثامين خلال عملية الدفن، ما دفع النظام للتوقف عن تسليم باقي الجثث التي بقيت عنده، قام عناصر النظام بمتابعة توزيعها، حيث دفن عدد غير معروف داخل مقبرة جماعية على حدود بلدة “جوبر”، كما قام بنقل قسم آخر إلى مقبرة “النعص” غربي مدينة حمص، وقسم ثالث تم دفنه داخل مقبرة حمص الشمالية المسماة مقبرة “تل النصر”، حيث تم دفنها هناك بشكل جماعي وبأعداد تقارب الخمسين في كل منها.
مجزرة بحق الموتى
وتروي المصادر الأهلية قصة واحدة من أفظع مجازر قوات الأسد وميليشياته، حين قام ضباط من فرع هندسة “الحرس الجمهوري” وبعد ضبط أحد برادات الفواكه والخضار في قبو أحد البيوت التي كان قد وضعوا بداخله أكثر من 15 جثمانا منعاً لتفسخها ريثما يتم دفنها، فنقل عناصر الأسد الجثامين إلى غرف جانبية صغيرة جانب مبنى البراد والتي كانت تستخدم كمستودع للعدة واللوازم والمواد، ثم قام هؤلاء بتلغيم تلك الغرفة الصغيرة بعشرات الكيلوغرامات من المواد المتفجرة (ت ن ت) وتفجيرها لتتناثر الأشلاء في كل الأنحاء..!
وقد بلغ مجموع الجثث التي تم دفنها وتوزيعها على تلك المقابر 750
1100 مفقود وقائمة بـ560 ضحية
ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة لعدد الشهداء الذين سقطوا على ثرى “بابا عمرو” وجوارها، إلا أن معظم الذين تم التواصل معهم ممن شهدوا تلك الأحداث أكدوا أن العدد يتراوح بين 4000- 4300 قتيل ومفقود منذ بداية الحراك الثوري وحتى خروج الثوار من هناك، يوجد منهم 1100 مفقود لا يعرف مصيرهم حتى تاريخه، ومن هؤلاء الشهداء الذين وثقهم النظام نفسه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.