قبل أسابيع، بدا أن قطار «التطبيع» العربي وضع على مساريه، الثنائي والجمعي، في طريقه إلى دمشق. هناك من ظن، أن سرعة القطار تزيد عما حصل في نهاية 2018، بعد فتح سفارة الإمارات في العاصمة السورية وبدء إحصاء عدد الدول الداعمة لعودة دمشق إلى الخيمة العربية في القاهرة. وفي الأسابيع الماضية، صدرت تصريحات من مسؤولين سوريين، بينهم وزير الخارجية فيصل المقداد والمستشارة الخاصة في القصر الرئاسي بثينة شعبان، وانتشرت تسريبات آتية من دمشق، عن اختراقات عربية كبيرة باتجاه دمشق: زيارات رفيعة لمسؤولين أمنيين عرب، وقرب فتح سفارات، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، وتوقع اتصالات هاتفية من قادة عرب بالرئيس بشار الأسد لتهنئه بعد إعلان دمشق فوزه بالرئاسة لولاية جديدة. أُضيف إلى ذلك ضخ إعلامي عن اتصالات سرية دبلوماسية أوروبية مع دمشق، وحديث عن فتح سفارات ووصول سفراء إليها، ورسالة من المقداد إلى بعض نظرائه الأوروبيين. وبالفعل، حصلت زيارات أمنية؛ إذ قامت شخصية أمنية سورية رفيعة بزيارة إلى القاهرة وغيرها، وكان هناك صمت عربي وعدم توجيه انتقادات مسبقة للانتخابات الرئاسية، مثلما حصل في 2014، كما وصلت مساعدات عربية إنسانية وطبية. إلى ذلك، قام دبلوماسيون أوروبيون يقيمون في بيروت بزيارات إلى دمشق. كما أن واشنطن قدمت استثناءات من العقوبات لأسباب إنسانية وطبية. لكن كثيراً مما قيل عن مضامين «رسائل الغزل» العربية لم يحصل. لماذا؟ بداية، من الواضح أن هذه الاتصالات العربية مع دمشق لا تزال في بداياتها، وهي خاضعة لاختبارات كثيرة. لذلك؛ من الطبيعي أن يبقى كل طرف متمسكاً بمواقفه السابقة: دمشق بشروطها لقبول «التطبيع»، والدول العربية بمطالبها لتوفير إجماع داعم لـ«التطبيع». هنا، لا بد من وضع الملف السوري في السياق الإقليمي والدولي الأوسع. فهناك انتخابات رئاسية إيرانية في 18 الشهر الحالي، وهناك استعراض – استفزاز قوة إيراني في الإقليم، ومفاوضات مع القوى الكبرى حول «الملف النووي». أيضاً، هناك قمة الرئيسين فلاديمير بوتين وجو بايدن في جنيف يوم الأربعاء المقبل. وسوريا، «جزرة» أو «عصا» في هذه التطورات والإشارات المتبادلة بين الفاعلين. ولدى تفحص الإطار الثاني، السوري – العربي، يبدو أن دمشق لا تزال على موقفها. فقد حمل «اقتراع» الرئيس الأسد في دوما، ثم «خطاب النصر»، الكثير من الإشارات الرمزية في النظر إلى «شروط قبول التطبيع». ولا شك أن «الرسائل الرمزية» تركت آثارها في محاولات التقارب. كما أظهرت المشاورات الأمنية الأولية عمق الفجوة بين المواقف. ففي بداية 2019، اشترطت دمشق على الجامعة العربية أن تبدأ من جانبها مسار إعادة سوريا إلى الجامعة، بل إن الحكومة السورية رفضت تقديم مذكرة لطلب رفع تجميد العضوية المعلن في نهاية 2011. ونُقل عن مسؤولين سوريين قولهم «على العرب العودة إلى دمشق – حضن العروبة، وليس العكس. لن نقدم مذكرة لطلب إعادة العضوية. أنتم قدموا طلباً وسندرسه». ويبدو أن أحد الاجتماعات التي عقدت في القاهرة في الأيام الأخيرة، كشف عن أن الموقف ما زال على حاله. وهناك من يذهب أبعد من ذلك، إلى القول إنه حتى في أمور تنفيذية تخص التعاون لمحاربة عمليات تهريب المخدرات والإرهاب، التي تعاني منها دول عربية، فإن مسؤولين أمنيين سوريين صبوا ماءً بارداً على طلبات في هذا الخصوص. وقال أحد الدبلوماسيين الغربيين، إن «التهريب بات مصدراً أساسياً في اقتصاد الظل السوري، في ضوء وجود العقوبات الغربية، وهو يدر مليارات الدولارات الأميركية، ولن يكون سهلاً التخلي عنه في ضوء تنامي دور شبكات أثرياء الحرب الجدد والحاجة إليهم وإلى أموالهم حالياً». ضمن هذا السياق، جاءت النصائح الأميركية إلى الأوروبيين، والأوروبية – الأميركية إلى العرب. صحيح أن إدارة بايدن خفضت سقف مطالبها في سوريا، وتوقفت عن فرض العقوبات على دمشق، وأن الملف السوري ليس أولوية لفريق بايدن الذي يركز فيه على ملفين: المساعدات الإنسانية عبر الحدود، واستمرار هزيمة «داعش» شرق الفرات. وهذان خيطان سوريان على سجادة بايدن – بوتين في جنيف. لكن النصائح الأميركية إلى العرب كانت بأن «التطبيع ليس مفيداً حالياً»، و«يجب ألا يحصل دون أي ثمن». طبعاً، «الثمن» الأميركي من دمشق تغير، ولم يعد «تغيير النظام» ولا «هيئة حكم انتقالية»، بل انخفض إلى «تغيير سلوك النظام»، ما يشمل «وقفاً شاملاً للنار في سوريا، وإطلاق معتقلين سياسيين، وإعادة كريمة للاجئين والنازحين، والتعامل بإيجابية مع الإصلاح السياسي والدستوري»…. ليس أكثر. كما وصلت النصائح ذاتها إلى بروكسل، عبر التأكيد على ضرورة «تماسك الموقف الأوروبي بعدم التطبيع وعدم المساهمة بإعمار سوريا، ما لم تتحقق الشروط المتوافق عليها». كل هذا وضع «التطبيع» على نار هادئة، بانتظار لقاء بوتين – بايدن، والقمة الأميركية – التركية ونتائج حشد بايدن لحلفائه خلال جولته الأوروبية، والفائز بالانتخابات الإيرانية وصفقة المفاوضات مع القوى الكبرى حول «النووي». لا شك، أن سرعة توجه القطار العربي إلى دمشق، ستحدد في لقاء وزراء خارجية «المجموعة المصغرة» الدولية – العربية بقيادة أميركا، على هامش مؤتمر التحالف الدولي ضد «داعش» في روما في 28 من الشهر الحالي.