سوريا – مروان مجيد الشيخ عيسى
منذ وصول حزب البعث بانقلاب عسكري إلى السلطة في أواسط الستينيات، دخلت سوريا في مرحلة من الحكم الشمولي. ومع وصول حافظ الأسد إلى السلطة بانقلاب آخر بداية السبعينيات، انتقلت البلاد إلى مرحلة أخرى من الحكم البوليسي، وصلت أوجها في ثمانينيات القرن الماضي.
وتمكّن نظام الأسد الأب من مقاومة رياح التغيير التي شهدها العالم بعد انهيار جدار برلين عام 1989، وبقيت سوريا كسجن مغلقٍ عصيّ على التغيّر. واستمرّ هذا المشهد في عهد الأسد الابن، وإن كانت بصورة تبدو أقل قسوة مما سبقها، وبالمحتوى نفسه.
أدّت الثورة التي انطلقت في آذار 2011 إلى تغيير في معادلة العلاقة بين السوريين والسلطة، ففقدت الأجهزة الأمنية رهبتها الشهيرة، وتحوّل النظام الذي كان يملك كل شيء في المشهد العام إلى فاعل من فاعلين آخرين، ينُازع على سيطرة الأرض، ويبحث عن تمثيل في المحافل الدولية المتعلقة بسوريا، ويحاول الحصول على الفتات الذي يتركه داعموه.
إن الظروف الموضوعية التي ساعدت حافظ الأسد على بناء جمهورية الخوف في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لم تعد موجودة اليوم، لا محلياً ولا دولياً، ومن ثم فإنّ من غير الممكن للنظام رغم بقائه على قيد الحياة حتى الآن، أن يُعيد بناء تلك المنظومة من جديد، ولا حتى أن يعود لسيطرته المطلقة على كامل المشهد العام.
عمل نظام الأسد بشكل متدرّج على تحويل سوريا إلى سجن كبير، مستوحياً بذلك نماذج الحكم الشمولي التي تم تطبيقها في الكثير من الدول الشيوعية إبان الحرب الباردة. وساعدت المواجهات التي جرت في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات على تسريع مشروع الأسد لبناء السجن، حيث تحوّلت سوريا في عقد الثمانينيات والتسعينيات إلى دولة بوليسية متوحشة، وتغولّت أجهزة الأمن في مفاصل الدولة والمجتمع.
وتركّزت استراتيجية الأسد في بناء جمهورية الخوف على عناصر عدّة، أهمها:
عمل حافظ الأسد على بناء منظومة متكاملة من الأجهزة الأمنية التي لا تتقاطع في عملها إلا لديه، بما يمنع اتفاقها، ويضمن عدم استفراد أيّ منها في التخطيط لمؤامرة ضده، ويدفعها للتنافس فيما بينها لتقديم المعلومات وخدمة النظام.
ومُنحت هذه الأجهزة صلاحياتٍ واسعة ومطلقة، وامتلكت إمكانية مصادرة أي حق دون مستند قانوني، بدءاً من “الحق في الحياة” وليس انتهاء “بحقوق الخصوصية”. وبينهما كان بإمكان هذه القوى اعتقال وإخفاء من تشاء، والحط من كرامة من تشاء، دون إمكانية محاسبتها، إلا من رأس النظام نفسه ووحده فقط.
وأدّت التنافسي.
وأيضا عمل حافظ الأسد على استيراد “استراتيجية الولاء المفرط” من بعض الدول الشيوعية آنذاك، وخاصة من كوريا الشمالية، التي زارها في عام 1974، وأعجب بنموذج كيم إيل سونغ في الحكم.
وتقوم الاستراتيجية على ضرورة قيام كل مكونات الدولة بتقديم الولاء المبالغ فيه لشخص القائد، دون استثناء جهة أو شخص مهما كان، وتقديم المكافأة إلى أولئك الذين يبدعون في إنتاج أشكال جديدة من الولاء، وعقاب أولئك الذين لا يُقدّمون الولاء بما يكفي من الخضوع.
ولا تهدف استراتيجية الولاء، بنسختها الكورية أو بترجمتها السورية، إلى إظهار قناعة الأفراد بالنظام أو برأسه، بقدر ما تطلب إظهار خضوع الأفراد، ومن ثم فإنّ النظام يشعر بالقوة كلما كان قادراً على إكراه الناس على تكرار ما يُثير السخرية
أدّت الوحشية المفرطة من قبل أجهزة الأمن والجيش والميليشيات المساندة كسرايا الدفاع في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات إلى توليد منظومة من القيم المنظمة للخنوع الذاتي لدى الأفراد، فانتقلت الرقابة الأمنية من فروع الأمن المختلفة إلى منظومة الأسرة، التي تحوّلت بدورها إلى جهاز أمني استباقي وفعال.
وانتشرت في بيوت السوريين عبارات من قبيل “اسكتوا فالحيطان لها آذان”، و”فلان ذهب إلى بيت خالته (السجن) ولن يعود”، و”لا تحكوا بالسياسة الله يرضى عليكم”، و”أحسن شيء الابتعاد عن كل شيء مرتبط بالسياسة”، و”ما دخلنا”.
وعمل نظام البعث على تجفيف الحياة السياسية، فمنذ اليوم الأول لانقلابه، أمَرَ عبر البلاغ رقم (4) بإيقاف إصدار الصحف في جميع أنحاء البلاد، ما عدا صحف الوحدة العربية وبردى والبعث، وبعد أسبوع آخر أصدرَ المرسوم التشريعي رقم 4 بتاريخ 13/3/1963 والقاضي بإلغاء امتياز الصحف والمطبوعات الدورية، ومصادرة ممتلكاتها، وفي 25/3/1963 أصدَرَ المرسومَ رقم 29، والقاضي بفرض عقوبة العزل المدني على عدد كبير من المدنيين والسياسيين والعسكريين والكتاب وقادة الأحزاب.