القرارات العشائرية بين التطبيق والمجاملات

سوريا – مروان مجيد الشيخ عيسى 

 

على الرغم من أن بعض الأعراف العشائرية قد اندثرت ، لكن هناك اعرافا بقيت تتناقلها الأجيال حتى يومنا هذا . ومنها على سبيل المثال ( المضيف ) وهو المكان الذي يجتمع فيه أبناء العشائر للتداول في أمورهم وحل مشكلاتهم . 

ولطالما كان بعض أبناء العشائر يسعون بشكل جاد لإصلاح ذات البين ، وكانت مضافاتهم منابر لتصحيح العادات والتقاليد الخاطئة وحل المشكلات .

فمنذ القديم أفرز المجتمع العشائري اعرافا تعد أقوى من النصوص القانونية في حال تطبيقها ، وابتدع وسائل لحسم النزاع أكثر فاعلية من الوسائل القانونية .

وعقب أية مشكلة عشائرية ، عادة ماتكون آليات الحلول واضحة . حيث يوجد في كل منطقة مجموعة من الأشخاص المؤثرين ، وهم من عدة عشائر ، غالبا ما يأخذون على عاتقهم التهدئة والشروع في الحل . والمتابع لما يحدث يجد أن هناك قضايا شائكة وقع خلالها ضحايا ، وكادت أن تؤدي إلى مالايحمد عقباه ، ولكن تم تذليلها بحهود الخيرين ، فدفنت مع أصحابها ، وكأن شيئا لم يكن .

وبالرغم أنه لاتوجد صفة قانونية لشيخ العشيرة أو العارفة أو القاضي العشائري ، ولكنهم يحظون بالاحترام والتقدير لدورهم في الإصلاح المجتمعي .

اليوم ومع ضعف سلطة القانون ، عادت وبشكل جلي القيم العشائرية للظهور ، وبات الاحتكام لعرف العشائر يطغى على سلطة القانون .

فلا يكاد يمر اسبوع إلا ونسمع أو نقرا وثيقة عشائرية أو مضبطة صاغتها عشيرة أو مجموعة من العشائر ، بحسب الظرف الذي لزم كتابتها والاتفاق عليها . 

والمضبطة عادة تضم مجموعة قوانين وأعراف وتتضمن بنود تساعد في ضبط الفوضى وتعمل على فض النزاعات بين العشائر ، بالإضافة الى قضايا السرقة والسلب ، كما أنها تسعى الى تنظيم مناسبات الأفراح والأتراح من خلال وضع شروط وتوصيات كالحث على عدم إطلاق النار في المناسبات  ومنع تقديم الطعام في بيوت العزاء ، والحد من المبالغة في هدر الطعام في  مناسبات الصلح ، واقتصار ذلك على تقديم القهوة فقط.

هذه الوثائق التي يتم الاتفاق عليها ، سواء المكتوبة منها أو الشفهية ، تبدو في ظاهرها خطوة رائدة وإيجابية ، لدرجة ان من يقرأها يشعر بالبعد الحضاري الذي وصلت اليه عشائرنا من حيث تنظيم أمورها بما يتواكب مع متطلبات العصر ، والبعد عن الغلو والتكاليف في المناسبات الإجتماعية في ظل الوضع الاقتصادي المتردي الذي يعيشه أغلب الناس .

ولكن في مضمونها تجد انها غير قابلة للتنفيذ . فأغلب الوثائق والمضابط التي كتبت لاتساوي قيمة الحبر الذي كتبت به لسببين ، الاول : أن الالتزام بها معنوي ، ولايترتب على من يخالفها عقوبات أو تبعات مادية ، والثاني : أن اغلب الذين يوقعون عليها ، لديهم الاستعداد للتوقيع على بياض ، ولايعنيهم تنفيذ المضمون من عدمه ، بقدر مايهمهم تدوين اسمائهم على تلك الوثائق . وهذا بحد ذاته بالنسبة لهم يعتبر إنجاز كبير .

أما القرارات الشفهية التي نسمعها في المناسبات العامة ، والتي عادة مايتلوها أحد رموز المجتمع على مسامع الحضور بقوله ( يجب ان نفعل كذا ، وسنفعل كذا ) فهي ليست سوى استعراض وبهورة أمام عدسات التصوير . لأن العبرة في التنفيذ وليست في إصدار القرار . كما أن تطبيق أي قرار يقتضي من صاحب القرار تطبيقه على نفسه أولا ، ولايكون ذلك بالخطب والشعارات والاستعراض والتصوير والميكرفونات ، إنما يكون بقرارات حازمة كما فعل يوما ما أحد شيوخ الجزيرة السورية منذ سنين مضت ، عندما تم منع تقديم الطعام في التعازي دون أن يلتزم البعض بالقرار .

وفي مأتم عزاء كبير كان يحضره ذلك الشيخ ،  تم تقديم الطعام ، وقبل ان يتقدم اليه أحد ، وقف مخاطبا الحضور من أبناء قبيلته قائلا :

هذا هو الطعام أمامكم ، من منكم ردي النفس فليتفصل . 

فكان لكلماته وقع الصاعقة على الحضور ، ما أدى إلى امتناع الجميع  عن الطعام ، بينما هو ( أي الشيخ )  غادر المجلس بعد أن لقن من لم يلتزم بقرارات القبيلة درسا بليغا ، مؤكدا من خلاله بأن القرارات تكتسب قوتها من قوة الذي صاغها ووعد بتنفيذها . 

وشتان بين من يترك الطعام ويغادر وبين من ينتظر .

الأستاذ والباحث ياسين الصويلح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.