سوريا – مروان مجيد الشيخ عيسى
مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، تمّ القضاء فعلياً على الكوليرا في معظم البلدان، الكبرى منها والصناعية بل والنامية أيضاً، بفعل التطور الذي طرأ على الخدمات الطبية وأساليب الصرف الصحي الحديثة ومعالجة المياه وتدوير النفايات. وغيرها من التحسينات فيما يخص الجانب الخدمي، بالإضافة طبعاً إلى إيجاد اللقاح المضاد للمرض واعتماده من قبل منظمة الصحة العالمية، وتأمينه، وانتشاره الواسع في مختلف بلدان العالم.
وفي الوقت الذي كان العالم فيه يستعد لتجاوز محنة “كوفيد- 2019” وجائحته الأولى وموجاتها، يبدأ ضوء الإنذار الأحمر بالإقلاع من جديد، محذراً من جائحة محتملة للكوليرا، ومعيداً إلى الأذهان هبوب “الريح الصفراء” المميتة (بحسب التسمية المغاربية للمرض). فهل نحن اليوم على أعتاب جائحة ثامنة للوباء تحت اسم “كوليرا- 2022″؟
منذ ظهور المرض في بدايات القرن الـ19 وحتى العام الماضي (2021)، اجتاح فيروس الكوليرا العالم 7 مرّات، متسبباً بوفاة عشرات الملايين من سكانه.
وخلال الأوبئة الثلاثة الأولى (بين 1816 و1860)، قُدّرت الوفيات في الهند لوحدها بأكثر من 15 مليون شخص. كما تُوفي 23 مليون آخرين خلال الأوبئة الثلاثة التالية (بين عامي 1865 و1917). وقد تجاوزت حالات وفاة الكوليرا في الإمبراطورية الروسية خلال تلك الفترة الزمنية المليوني شخص.
بحسب ما تفيد مختلف المصادر والمراجع الطبية، فإن عدم معالجة مياه الشرب والنظافة، وتلوثها، بالتوازي مع نقص معالجة “البراز البشري”، تعدّ من أهم أسباب عودة الكوليرا وانتشارها، كما وأن الجثث التي تُلقى في المستوعبات المائية والينابيع ومجاري المياه تعتبر بمثابة مستودع طبيعي لوباء الكوليرا. ومن هنا ندرك ببساطة أسباب انطلاقتها الجديدة من بعض مناطق سوريا قبل استفحالها وانتشارها لتشمل كافة محافظاتها تقريباً، وتهديد دول الجوار.
أما في هذه الفترة فحرب النظام السوري التي شنها على السوريين، والتي تخطّت العقد من الزمن وأتت على مختلف المرافق الحيوية والبنى التحتية والفوقية في معظم المناطق السورية، إضافة إلى مئات آلاف القتلى. بالإضافة أيضاً إلى الإهمال الذي لحق بتلك المناطق بعد تدميرها وخروجها من سيطرة النظام، سواء في شمال شرقي سوريا أو شمال غربها، وعدم الالتفات إلى ترميمها من قبل أطراف النزاع فيها (قوات سوريا الديمقراطية- الجيش الوطني- هيئة تحرير الشام) التي أولت الجانب العسكري اهتمامها الكامل.
كل ذلك شكّل الأرضية المناسبة لعودة تفشي الكوليرا انطلاقاً من سوريا في منتصف فصل الصيف الأخير (أواخر شهر آب الماضي)، وتحديداً من مناطق شمال شرقي سوريا الواقعة تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية والتي تضمّ المورد الأول للمياه في سوريا (نهر الفرات) وتفرعاته وقنواته المشقوقة بهدف ريّ الأراضي الزراعية واستخدامها للشرب أيضاً، بالإضافة إلى نهر الخابور وروافده الذي قضى الجفاف واستجرار المياه الجوفية على حصّته المائية القادرة على الجريان.
فظهرت الكوليرا بداية الأمر في أرياف دير الزور والحسكة والرقة، نتيجة التلوث الذي راح يغزو مياه نهري الفرات والخابور، ثم انتقلت إلى حلب التي تعتمد في جزء كبير من مياه شربها على ما يتم استجراره من مياه الفرات عبر مجرى صناعي أقيم لهذه الغاية منذ تسعينيات القرن الماضي، ثم اجتاحت بسرعة كامل البلد.
وساعد على ذلك الانتشار أيضاً، موجة الجفاف الشديدة التي أصابت المنطقة، ودفعت الناس إلى الحصول على مياه الشرب من مصادر معرضة للخطر من مياه الأنهار والقنوات المكشوفة في مناطقهم.
ومع تصاعد أعداد الإصابات وحالات الوفاة تدريجياً منذ آب، وعدم تسجيل تراجع أو ثبات في حالات الإصابة المسجّلة، بالإضافة إلى عبور حالات الإصابة الحدود لتصل إلى لبنان ودول إقليمية أخرى، يهيمن الخوف اليوم من تفشي الكوليرا على نطاق واسع، ويزداد هذا التخوف بين أوساط منظومة الرعاية الصحية المحلية التي أنهكتها سنوات النزاع.