حزب البعث في ذكرى تأسيسه كيف انحرف لصالح عائلة الأسد

سوريا – مروان مجيد الشيخ عيسى 

مرت عقود على وصول حزب البعث إلى السلطة، وما زال، على الرغم من تهلهله وما اعترى بنيته من تحولاتٍ جعلته على النقيض مما أعلنه من أهدافٍ وشعارات حفلت بها مؤتمراته الأولى، ومن ثم منطلقاته النظرية وأدبياته ومناهجه التي فرضها قسراً على الدولة والمجتمع، بصفته قائداً لهما كما جاء في المادة الثامنة من دستورٍ صاغه بعد استيلائه على الحكم في العام 1963.

ثم تراجع عنها بعد الثورة السورية عام 2011 في محاولة للالتفاف على مطالبها، وحذفها من دستور جديد، لم يغيّر من واقع تفرّده بالسلطة، وإن كان شكل التفرّد القائم بمشاركة محدودة ومؤطّرة لأتباعٍ أكثر منه تهلهلاً، غدا خاوياً من كل فعل قيادي، وتابعاً لا متبوعاً كما كان سنواته .

فوجئ القوميون الطامحون لنهضة عربية موحدة بخديعة بريطانيا وفرنسا وتقاسمهما احتلال الشمال العربي، بعراقه وشامه، فهبّت الثورات المسلحة في سورية منذ بدء الزحف الفرنسي الذي قضى على المملكة الناشئة في 1920، واستطاع، بعد سبع سنوات، إخماد الثورات المسلحة ضده لتنتقل النخب إلى مرحلة النضال السياسي منشغلة بواقع التجزئة المفروض على حساب الحلم القومي العربي، ما أدّى إلى نشوء جمعيات قومية داعية إلى رفض كل تعاون مع الاحتلال، وكان من أكثرها تنظيماً وفاعلية جمعية التحرير العربية التي اعتمدت نظام الخلايا السرية المغلقة، مركّزة عملها في الحركات الكشفية والمنتديات، النادي الثقافي العربي في حلب، والنادي العربي في دمشق، وسواهما من منتديات في الحواضر الكبرى التي بلغ عدد أعضائها ارقاماً مئوية، منهن عشرات النساء المتعلمات، ومولية أهمية قصوى للعمل في قطاع التعليم، استناداً إلى نجاح تجربة المعلم البروسي في تحقيق الوحدة الألمانية، وهي التجربة التي تبنّاها في العراق ساطع الحصري وفاضل الجمالي وسامي شوكت ودرويش المقدادي، بتشجيع من الملك فيصل وحكومته. 

وفتح قضاء حافظ الأسد على معظم القيادات السابقة لحزب البعث الباب أمامه ليكون قائداً أوحد،  فجمع رئاسة الجمهورية والقيادة العامة للقوات المسلحة، ووضع في وزارة الدفاع شخصاً مدنياً لا يحظى بأي احترام بين الضباط متعب شنان، قبل أن يمنحها أبدية لشريكه المقسم على الولاء الأبدي، مصطفى طلاس، ليكون واجهة متعمّدة الإضعاف لأغلبية سنّية، كما سمّى نفسه أميناً عاماً للحزب، جامعاً أمانة القيادتين القومية والقطرية، موسعاً الشرخ مع الحكومة البعثية في العراق، ومتابعاً نهج التصفية لمن يرى فيهم خطراً، فأقدمت استخباراته على تصفية اللواء محمد عمران في لبنان، ثم أتبعه بقطب التأسيس صلاح البيطار في فرنسا، شأنه مع كل خصومه ممن تستطيع أذرعه نيلهم، حتى وإن كانوا غير سوريين، كما حصل لاحقاً من اغتيالاتٍ نفذتها منظومته لشخصيات سياسية لبنانية عديدة، أشهرها كمال جنبلاط والرئيس المنتخب خارج إرادته رينيه معوض وسواهما كثير. 

لم يعد “البعث” في مرحلة الأسد الأب كسابق عهده، راسماً سياسات أو استراتيجيات إلا بقدر صدورها عن القائد الأوحد المبجل بكل صفات الإلهام والحكمة، صحيحٌ أن الأسد  استخدم ما أسميت كتائب البعث في حربه مطلع الثمانينات مع الطليعة المسلحة التي ادّعت انسلاخاً عن حركة الإخوان المسلمين، لكن دور تلك الكتائب لم يتعدّ حراسة مقرّاتٍ، هدف منها زج الحزب ومنتسبيه في الصراع، ليضمن منهم صورة ولاء كونهم مستهدفين، فيما استخدم الجيش بقواته الضاربة لمحاربة خلايا التنظيم من دون رادع عن ارتكاب فظائع صارخة التوحّش بحق المدنيين، كما حدث في مجزرتي حماه وسجن تدمر وسواهما في محافظات حلب وإدلب وحمص. ولعل أعظم الدلائل على تفريغ الأسد “البعث” من كل مضمون أنه بعدما استتب له الأمر بالتخلص حتى  من خطر أخيه رفعت، وتجديد انتخابه الصوري لولاية جديدة، رفع “البعث” بأوامر من منظومته شعار الأبدية “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد”. 

وقد كرّس الأسد الشعار ليس إلى حين موته فحسب، بل تجاوزه بإصرار على توريث عائلي، محولاً الحزب إلى مجرّد جوقات، مصفقين ومهللين لكل خطواته مهما كان اتجاهها، وليتحوّل “البعث”، بإرادة الأسد، من أساس ارتكز عند المؤسّسين على مفهوم العصبة القومية إلى مفهوم رعاع تابعين لمنظومة عصابة عائلية، وليضرب الأسد الأب بعدها صفحاً عن أي دعوةٍ إلى مؤتمر للحزب طيلة الأعوام  الخمسة عشر  الأخيرة من حياته.

يقول حنا بطاطو: “في عهد الأسد، تغيرت شخصية البعث تحوّلت كوادر الحزب أكثر فأكثر إلى بيروقراطيين وصوليين، ولم تعد حيّة أيديولوجياً نابضة بالحياة كما في الخمسينات والستينات، حيث تجاوز الإخلاص غير المشروط للأسد في نهاية المطاف الإخلاص للقناعات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.