سوريا – مروان مجيد الشيخ عيسى
عندما انطلقت الثورة السورية في آذار سنة 2011م لم يكن أحد يتصور عمق وقسوة المخاض الذي سيمر به السوريون حتى يصلوا إلى ما ثاروا من أجله وهو الحرية والكرامة، فأقصى ما كان يدور في خلد السوريين الأحرار في ذلك الوقت أنها سنة من الزمان أو بعض سنة ويسقط الطاغية، وينتهي الأمر، لكن الوقت طال ونال من السوريين ما نال، فمن القتل بالرصاص والبراميل المتفجرة إلى القتل بغاز السارين خنقاً، وصولاً إلى الموت غرقاً في عرض البحار بقوارب مطاطية فضلوها على البقاء في جحيم الحرب وبركانها الذي يلقي بحممه يميناً ويساراً.
ولأن لكل صوتٍ أو صرخةٍ صدى، فإن صدى المأساة السورية كان الأدب عموماً والشعر خاصة، فقد عمل شعراء الثورة السورية على أن يكونوا صوتها إلى العالم حاضراً ومستقبلاً، ناقلين بأحاسيسهم المرهفة معاناة هذا الشعب العظيم وإصراره على الاستمرار في طريق الثورة حتى الرمق الأخير، فإما النصر وإما الشهادة، فالشعراء عبّروا عن موقف الشعب السوري الحر في إصراره على المضي قدماً في طريق الحرية غير مبالٍ بهول حجم التضحيات التي قدمها وما زال يقدمها بعد اثنتي عشرة سنة على انطلاق ثورته ثورة الحرية والكرامة.
ولقد مضى الشعر منافحاً عن الثورة على مدى أكثر من عقدٍ من الزمن لا يكلّ ولا يملّ، معبّراً عن قوة صبر هذا الشعب العظيم، وقدرته على كسر حاجز الخوف من نظام مجرمٍ مستبدٍّ عمل على مدى خمسين سنة على قهر واستعباد السوريين، فهذا السوري الحرّ خرج من قمقمه بعد تحطيمه للأقفال ولن يعود الزمن إلى الوراء، فإما حياة كريمة وإما الموت بشرف، فبعنفوان أهل الشام الذين كسر جدار الذل والمهانة ونفروا خفافاً وثقالاً إلى معركة الحرية والكرامة براقاً يهتدي بآخر.
وتتجلى الهوية الوطنية لشعراء الثورة جلية براقة كالشمس الساطعة، فالثورة ثورة سورية لكل السوريين، والشعب الذي ثار هو الشعب السوري بكل أطيافه، ولم تكن يوماً ثورة فئة على فئة، أو مكوّن على مكوّن آخر، بل هي ثورة شعب مظلوم اسمه الشعب السوري على نظام مجرم مستبد قاتل عمل بكل ما أوتي من قوة ودهاء ومكر ولؤم على أن يجعلها حرباً ضد الإرهاب، ولم يألُ جهداً في زرع أعوانه في صفوف الثورة ليمارسوا كل ما يستطيعون من قذارات حتى يحرموها من حاضنتها الشعبية، فيأتي الشعر الثوري ليبرز الهوية الوطنية السورية على الملأ متجاوزاً الآفاق الضيقة والمنغلقة على نفسها ضمن كل مكوّن، فالشاعر يفخر بانتمائه الوطني إلى الوطن السوري العميق في تاريخه وحضارته.
ولعل المعادلة التي اعتمدها النظام في تعامله مع السوريين منذ اعتلاء حافظ الأسد الحكم في السبعينات تقوم على مبدأ من ليس معي فهو ضدي، فالنظام لا يقبل أنصاف الحلول، فهو لا يرضى بغير الولاء الخالص، ومن لم يمنحه هذا الولاء، فهو من المغضوب عليهم إلى يوم يبعثون، فجاء موقف النظام من شعراء الثورة والمنافحين عنها بأقلامهم متناغماً تماماً مع آلية تفكيره التي تقوم على تلك المعادلة التي ذكرناها آنفاً، فالشاعر في كتاباته يبيّن سبب غضب هذا النظام عليه وعلى أمثاله من الذين اختاروا أن يقفوا مع الضحية ضد الجلاد.
وبما أنّ الثورة السورية انطلقت في الخامس عشر من شهر آذار، فإن هذا الشهر أي آذار احتلّ مكانة عالية في قلوب السوريين عموماً وشعراء الثورة خصوصاً، فقد أصبح رمزية خاصة عندهم، بل ومكانة مقدسة نظراً إلى أنه الشهر الذي حطم فيه السوريون جدار الخوف وانطلقت حناجرهم تنادي للحرية والكرامة، فكيف لا يتعاملون معه بقدسية، وهو تأريخ للحظة خلاصهم من القمقم الأسدي البشع.
ولعل أبرز ما عالجه شعر الثورة السورية هو الحنين إلى الديار، فالسوريون المهجّرون قسراً عن ديارهم تكاد تلمس بيديك وترى بعينيك البراكين المشتعلة في صدورهم حنيناً وشوقاً إلى مدنهم وقراهم التي تم نزعهم منها كما يُنزع الجذع من أرضه، فسياسة التغيير الديمغرافي التي اعتمدها النظام وحلفاؤه الإيرانيون كانت تقتضي خلع هؤلاء من هذه المدن والقرى واستبدالهم بآخرين غرباء يتم تجنيسهم مباشرة ليصبحوا هم أصحاب الأرض الجدد، بينما أصحابها الحقيقيون يتم قتلهم أو نفيهم وطردهم منها دونما رحمة أو شفقة ليعيشوا في مخيمات لا تصلح حتى لإيواء الحيوانات، فالشاعرعبر عن حنينه وشوقه لداره ومرابع طفولته حنيناً تكاد تلمسه لمس اليد من شدة صدقه، فيتسرب في زوايا الروح مالئاً إياها بمشاعر الحزن والأسى لهذا المصير الذي آل إليه السوريون المهجّرون.
فالشاعرة الثائرة ولاء جرود تعبر عن حنينها وشوقها لدارها ومرابع طفولتها حيث قالت:
أنا يا دارُ
أهلُ الصّبرِ
لكن هدّني وصَبي
فكلّ مهجّرٍ أيّوبُ
لكن وحدهُ أيّوبُ
بينَ الصّابرين نبي
ولي أرجوحةٌ يا دارُ
في جنبيكِ تألفُني
إذا ما جئتُ أذكرها
كأنّي في رُباكِ صبي
وأذكر خبزةَ التّنّورِ
طبيتها وحمرتها
وأيدي جدّةٍ طُبِعتْ
عليها سُمرةُ الحطبِ
وكرماً فاضَ فيه التّينُ
والزّيتونُ والرّمّانْ
وداليةً تطوفُ بها
عناقيدٌ من العنبِ
وبيّاراتِنا
إذ كان يسقي تُربَها جدّي
بماء الكدِّ والتّعبِ
ومقبرةً بها واريتُ
كلَّ ملامح الإخوان
بها واريتُ كلّ أبي.
فكان الأدباء والشعراء صرخة ثورة السوريين في ظل الصمت الدولي .